وليس غيبة مولانا الأستاذ عنّا، إلا غيبة العافية عن الجسم المضنى، بل غيبة الروح، عن الجسد البالي المطروح، ولا العيشة بعد فراقه، وهجر أحبابه ورفاقه، إلاّ - كما قال بديع الزمان - عيشة الحوت في البر، والثلج في الحر، وليس الشوق إليه بشوق، وإنّما هو العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسري ويسير، وليس الصبر عنه بصبر، وإنّما هو الصاب والمصاب، والكبد في يد القصاب، والنفس رهينة الأوصاب، والحين الحائن وأين يصاب، ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطّه، مزيناً بضبطه، بلى، قد كان شرف عطارد، حتى اجتمع من أنواع البلاغة عندي كل شارد، وأمّا خطه فكما قال الصاحب بن عبّاد: أهذا خط قابوس، أم جناح الطاووس أو كما قال أبو الطّيب:
من خطّه في كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأنّ مداده الأهواء وأنا أقول ما هو أبدع وأبرع، وفي هذا الباب أنفع وأجمع: بل هو خط الأمان من الزمان، والبراءة من طوارق الحدثان، والحرز الحريز، والكلام الحر الإبريز، والجوهر النفيس العزيز، وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه إخواني، واستبشر به أهلي وخلاّني، وكان تقبيلي لأماليه، أكثر من نظري فيه، شوقاً إلى تقبيل يد وشّته وحشّته، واعتياداً للثم أنامل جسّته ومسّته، وأمّا اليراعة، فلا شكّ أنها ينبوع البراعة، حتى جرى من سحر البلاغة منها ما جرى:
فجاء الكتاب كسحر العيون ... بما راح يسبي عقول الورى وينادي بإحراز خصل سحر البيان من الثريا إلى الثرى، ولم أر كتاباً قبل تكون محاسنه متداخلة مترادفة، ولطائفه وبدائعه متضاعفة متراصفة وذلك لأنّه سرد من غرر درره الأحاسن، وورد على يد رأس أحبابنا تاج بني محاسن:
أولئك قومٌ أحرزوا الحسن كلّه ... فما منهم إلاّ فتى فاق في الحسن