وفي هذه الأيام اتصل الخبر بما كان من عزله عن إمارة الجند المغربي قطب ثقالها، وربان مركبها يحيى بن عمر بن رُّحوا بن عبد الله بن عبد الحق، المرهف الجوانب الذلق الحَد، المستولي على مدى الحنكة، العريض النعمة، الحجة في اللغة الزناتية والأنساب البربرية، السديد الرأي على الحدَّة. وقدَّم إليها إدريس ابن عثمان ابن أبي الْعُلى بن عبد الله بن عبد الحق، الكائنة تحت أبيه قبل أن يتلقَّف يحيى كُرَتَهَا. غَبَطَ به تَوحُّشُه من الجهة المرينية، إذ طرق حضرتهم فاراً هارباً إليهم من بلد برجلونه، واستحضر المعزول، وبسط له القول وأقطعه البر، وأظهر تَرفُّهَهُ أن صُرِفَ قانعاً بمخيِلته مستبقياً لعشرة حياته، فأَنِف قومُه من هضمه، وتوقعوا إيقاع المكروه به، فحركوه إلى الفرار، ولم يمهلوه فأجاب نداءهم، وبرز ضحوة وقد منطق بالصامت خصور خالصته، ورفع على الظَّهر خطير حليته ونفيس عُدَّته وأصاغر ولده، والتف فيمن كدح له وحجه حسن بلائه، وأصحر مساوقاً جهة النهر.

ولما طرق النبأ باب السلطان، استركب الجيش في أثره ووقع النَّفير، وقذفت البلدة بأفلاذها، وتلاحقت سرعان الخيل بأذياله مُحَمْحِمَةً عن شباة ثم كوْثَرَ فأعمل الطَّعن وصدقهم سنَّ بكره حسن بلاء وصدق حفيظة، وانصدع عن القتام خالصاً خُلُوصَ الزِّبْرِقَان عن السرار، وقد تناصف القوم وأُرجِلَ كثير من أوليائه، ولم يكد يستقل حتى قطعت به الفرسان من قبل تَحيُّر المُجَمِّرَةِ بثغر إلبيرة ممسين بالحُمام على كلالة، مستعدين بالرجْل ورُماة الشّعرْاء، فهناك حصحص الحق، وصَرح عن الزبدة المَخْض، ودسِّ النِّجَار الحُر، ولم يُخْذَل الصبر، فأَقصروا عنه، وأفرجوا عن طريقه، وقد أصيب بجراحه رغيبة، وجُدِّل قوم من كفلاء أمانته، ورُدَّ فتى من ولده، وزامِلَةٌ من متاعه، ولحق بقلعة يَحْصُبُ من ثغور الروم في زهاء مائتين من قرابته وفرسانه، فاهتز ملك الروم لمقدمه مغتبطاً بجواره، صتئلاً بحدِّه على عدوه. ونَغَرَ جُرحَه، فأقام بقرطبة مرَفِّهاً عليه، قد أُوعِز إلى الأسَاةِ في العناية به، وكان من الأمر ما يذكر إن شاء الله.

وقَبض على الشيخ المُنْبَتِّ في مَتِيهِ الضلال، مخيفِ السابلة وخاتر العهد، الموروي، المنحط في مهوَى عَقْدِ الإباحية بسبب الفاجرة زوجه التي أبدلت فصله، وقلبت عينه، وصيرته في الأمد القريب من طور الأمية والتوحش والفظاظة والغيرة، إلى طور السمْح بها لمدَّعى الهوى فيها طوعاً من غير خلاف يُزْوَى عليها بعده من غير سبب ولا تقرر، ويدور في ذَوْدِ الرقص مقلِباً من نَظْرَتِه، عاضاً بأسنانه على شَفَتَيْه، متدارك الدَّرج، نعَّاراً مشيراً بكُمَّيه، يعيد ألفاظاً من المقول الذي حرَّكَ ساكنَه مما يجري في لفظُ السر والذات والجمال وأمثالِه. ثم يتصبب عرقاً، ويبرُكُ كالبعير وتبادَرُ عضلاتُه وهدوته وخُصاه بالغَمْز حتى يفيق كالذي يتخبطه الشيطان من المس، مُنْكِراً وجوب التكليف لا يقف عند حد من حدود الله.

ثم ماتت تلك المومسة على وعدٍ بالرَّجْعة كان يَرْقُبُه ولقد كان يقول لي وبين يديه ولدان من تلك الإباحية: هذا - ويعنيه - ولد السِّرّ، وهذا ولد الطَّيْر لَبِسَ هذا الطَّوْر وسَرَت حُمَيَّاه في طباعه المتعاصية، وخفيت من ألفاظه الجهْوَرية، وطأطأت من حُرْمةِ الأيْدِ البادن، ودَخَلَتْه من ذلك قوة سحْريَّة أثَرت فيه تأثيرات التعليم في الحيوان من الحمير التي تنام وترقص وتُخرج الخبَّ والدنيَّة التي يصعد على الطيف الخرط وتخرج لعب الإنس، وما زاده ذلك إلا عُتُوّاً وجرأة على سفك الدماء وانتهاكِ محارم الله، فَوَغَل عليه ضدّه حذراً من جرأته، مُنْحِياً عليه الذَّنب ديْدَنَه في سواه. وعاجله بالقبض عليه موسعاً إياه ما شاء من تقريع، محملاً إياه تحيته إلى ابني أبي الفتح غرقائه في قاموس البحر على سبيل التندر والظفر، والتيس يتبرأ من الجريرة، ويذكره العهد الذي شَانَه ختره، ويشمِّتُه نقضه؛ فصُفِّد واحتمل على الظهر إلى المريه، واختلف في صورة هلاكه بين نَوْشِه بالأسنَّة أو إغراقه ببحر الشامة البيضاء من مرساها، وقد أثقلت رجلاه ببعض الأجرام استعجالاً لرسوبه، فصار إلى خزى الله وسوء المصير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015