فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ، لا في المجاوزة؛ فحصل التعارض بين ما قلتم، وما قلناه؛ فعليكم الترجيح، ثم الترجيح معنا؛ فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا.
سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة؛ ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة ألا يكون هناك ما يمنع منه، وقد وجد هاهنا ما يمنع؛ فإنه لو قال: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقيسوا الذرة على البر) كان ركيكًا؛ لا يليق بالشرع.
وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته، سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة؛ لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي.
وبيانه: أن كل من تمسك بدليل على مدلول، فقد عبر من الدليل إلى المدلول، فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع، وبالنص، وبالبراءة الأصلية، وبالقياس الشرعي؛ فكل واحد من هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له، فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز، لا بلفظه ولا بمعناه؛ فلا يكون دالاً على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك، وجهة الامتياز، فلفظ (الاعتبار) غير دال على القياس الشرعي، لا بلفظه، ولا بمعناه.
فإن قلت: القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود واحد منها، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته، فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود، ثم ليس تعيين أحد أنواعه أولى من