وقبل أن أذكر بعض الأمثلة الفقهية الاجتهادية -من الفقه المالكي خاصة- أذكر مثالا من السنة، أوضح من خلاله الأساس الذي يقوم عليه مبدأ سد الذرائع، وهو حكم الهدية:
فالتهادي بين الناس -أقارب، وأصدقاء، وجيرانًا، وغير ذلك- من الأعمال المشروعة والمرغب فيها، لما فيه من بث المودة والألفة والتعاون. ولكن، قد تستعمل الهدية ذريعة إلى أمر غير محمود، في حاله أو مآله. وفي هذا جاء الحديث النبوي، بمنع الهدية للعمال "الموظفين"، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا لجمع الزكاة. "فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار. أو شاة تيعر". ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت، مرتين".
والتعليل النبوي واضح، فإن الهدايا لم تقدم لهذا الرجل، لذاته، ولا لعلاقة خاصة بينه وبين أصحابها، ولا لأن ذلك جار بينه وبينهم من قبل، وإنما أهدى له لأجل مهمته "منصبة"، "عسى أن ينفعنا"، وهذا باب من أبواب الفساد والانحراف والمحاباة. يبدأ خفيًا خفيفًا، ثم يستفحل ويستشري. وليس الخبر كالعيان. فكيف إذا اجتمع الخبر والعيان؟.
وفي هذا يقول ابن القيمِ: "الوالي، والقاضي، والشافع، ممنوع من قبول الهدية. وهو أصل فساد العالم، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته. وحبك الشيء يعمي ويصم، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له"1.
وعلى هذا الأساس سار الفقه المالكي، مثلما سار قبله فقه عمر وسياسته الراشدة، فبالغ في سد ذرائع الفساد وتضييق مسالك الانحراف، وفي قمع المقاصد