ولكن هذه الفكرة عرفت عند الشاطبي صقلًا وتوضيحًا، وتطويرًا وتوسيعًا. فهي عند الجويني بذرة، وعند الشاطبي شجرة.

وللجويني التفاته ذكية إلى ما بين التكاليف الشرعية، والنوازع الغريزية، من تكامل في جلب المصالح ودرء المفاسد. فما كانت الغريزة تشتهيه وتدفع إليه -كالكل والشرب، والتملك، والجماع، وطلب المناصب المشرقة- فإن الشريعة قلما تدعو إليه وتكلف به. بل نجدها تضع عليه القيود والحواجز التي تكبح الاندفاع الغريزي عن الإفراط والتعدي، وما كانت النفوس تنفر منه بطبعها، فإن الشريعة تركت الناس يجتنبونه بمقتضى طبعهم1. ولكنها شددت الطلب وأكدته فيما تستثقله النفوس وتتقاعد عنه كالعبادات وأداء الحقوق لأهلها، والجهاد.

وهذه الفكرة العابرة عند الجويني2، عمقها الشاطبي، وتتبع آثارها في كثير من جوانب التشريع الإسلامي، وحررها -على عادته- في قواعد واضحة مضبوطة3.

أما استفادة الشاطبي من الغزالي، فهي واضحة صريحة، تنطق بها عشرات الشواهد في "الموافقات" و"الاعتصام"، حتى ليمكن اعتبار الغزالي أحد أبرز شيوخ الشاطبي، رغم القرون الثلاثة التي تفصل بينهما.

ويكفي أن أهم ما ظل يتردد عند الأصوليين عن المقاصد، من مبادئ وأمثلة ومصطلحات، إنما هو من وضع الغزالي. ثم كان ذلك مما تبناه الشاطبي وبنى عليه.

وليس هذا فحسب رغم أهميته في موضوعنا -بل إن الشاطبي قد ذكر الغزالي في الموافقات نحوًا من أربعين مرة في مختلف مباحث الكتاب. وفي أكثرها يذكره

طور بواسطة نورين ميديا © 2015