وقد عمل المؤلف الفاضل على تجلية هذا المنهج الاستقرائي عند الشاطبي وبيان قيمته ومدى الحاجة غليه. ومن الجوانب التي تضمنها هذا الكتاب والتي تخدم مناهج فهم الكتاب والسنة، بحثه المستفيض لمسألة تعليل الشريعة وتعليل أحكامها. ومن أهم ما ينبني على هذا البحث هو ما قرره المؤلف، ودافع عن صحته، من ضرورة أخذ النصوص بمقاصدها، وضرورة إدخال التفسير المصلحي في معانيها وأحكامها.
ومن خلال هذا الكتاب تتضح قضية أخرى من منهاج فهم نصوص الشريعة، وهي أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها. وهو نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات، فكليات الشريعة ومقاصدها العامة، هي أصول قطعية لكل اجتهاد ولكل تفكير إسلامي، فلا بد من إعادة الاعتبار إليها، ولا بد من وضعها في المقام الأول، ثم يرتب ما عداها عليها. وهذه خطوة ضرورية لإعادة تشكيل العقل المسلم ولإعادة ترتيب موازينه وأولوياته. ذلك أن من أهم مظاهر أزمة العقل المسلم: اختلال الموازين والأولويات التي وضعها الإسلام في نصابها. فوقع فيها -على مر العصور- تقديم وتأخير، وتضخيم وتقزيم، على خلاف وضعها الحق. ولعلل هذا ما نبه إليه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال لبعض أصحابه: "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه1، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم2. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده. كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة. يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم3.
وما أكثر ما أصيبت حياتنا العلمية والعملية بأمثال هذه الاختلالات والانقلابات في القيم والأولويات. كثر الحفاظ وتزايد القراء وضعف الفقهاء الحكماء. وبولغ في ضبط