لأنّ الاختلاف فيها يسبّب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشّرع، وما زالت الصّحابة- رضوان الله عليهم- يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون (?) .
وقال ابن كثير- رحمه الله-: أمرهم الله- عزّ وجلّ- في الآية الكريمة بالجماعة ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بالنّهي عن التّفرّق والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد ضمن الله لهم (أي للمسلمين) العصمة من الخطا عند اتّفاقهم (واجتماعهم) ، وخيف عليهم (الخطأ) عند الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمّة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنّة ومسلّمة من النّار، وهم الّذين على ما كان عليه محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه (?) . وقال أبو حيّان: نهي المسلمون (في هذه الآية الكريمة) عن التّفرّق في الدّين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنّصارى، وقيل: عن إحداث ما يوجب التّفرّق ويزول معه الاجتماع (?) .
قال الشّافعيّ- رحمه الله-: وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصّلاة: صلّوا فرادى، ولا أحبّ أن يصلّوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه. وإنّما كرهت ذلك لهم لأنّه ليس ممّا فعل السّلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم.
قال الشّافعيّ: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنّما كان لتفرّق الكلمة، وأن يرغب الرّجل عن الصّلاة خلف إمام جماعة فيتخلّف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصّلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرّق كلمة (?) .
قال الشّيخ أحمد شاكر- رحمه الله- معلّقا على كلام الشّافعيّ: والّذي ذهب إليه الشّافعيّ من المعنى في هذا الباب صحيح جليل، ينبيء عن نظر ثاقب، وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام، ثمّ أجلّه وأخطره-: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية. والمعنى الرّوحيّ في هذا اجتماعهم على الصّلاة وتسوية صفوفهم فيها أوّلا، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين وجوهكم» ، وهذا شيء لا يدركه إلّا من أنار الله بصيرته للفقه في الدّين، والغوص على درره، والسّموّ إلى مداركه، كالشّافعيّ وأضرابه. وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار تفرّق جماعاتهم في الصّلاة، واضطراب صفوفهم، ولمسوا ذلك بأيديهم، إلّا من بطلت حاسّته، وطمس على بصره. وإنّك لتدخل كثيرا من مساجد المسلمين فترى قوما يعتزلون الصّلاة مع الجماعة، طلبا للسّنّة كما زعموا! ثمّ يقيمون جماعات أخرى لأنفسهم،