وهذه المجاهدة هي الّتي أطلق عليها الشّيخ دراز مصطلح «جهد المدافعة» ويراد بها: تلك العمليّة الّتي نضع فيها في مواجهة الميول الخبيثة الّتي تحثّنا على الشّرّ قوّة مقاومة قادرة على دفع تأثيرها (?) .

أمّا ابن مسكويه فإنّه يعرّف الإنسان الفاضل بأنّه: الإنسان الخيّر صاحب الإحسان الذّاتيّ الّذي يبقى ولا ينقطع ويتزايد على الأيّام ولا ينتقص (?) ، ومن كانت هذه سيرته فإنّه يسرّ نفسه، ويسرّ به غيره، ويختار كلّ إنسان مواصلته ومصادقته، فهو صديق نفسه، والنّاس أصدقاؤه، وليس يضادّه إلّا الشّرّير (?) ، ومن النّاس من يصطنع المعروف لأجل الخير نفسه، ومنهم من يصطنعه لأجل الذّكر الجميل، ومنهم من يصطنعه رياء فقط، وأعلى هؤلاء مرتبة من صنع الخير لذاته، وصاحب هذه الرّتبة لا يعرف الذّكر الجميل والثّناء الباقي. ومن سار بهذه السّيرة واختارها لنفسه فقد أحسن إليها وأنزلها في الشّرف الأعلى وأهّلها لقبول الفيض الإلهيّ، وإذا كان بهذه الحال فهو لا محالة يفعل سائر الخيرات، وينفع غيره ببذل الأموال والسّماحة بجميع ما يتشاح النّاس عليه (?) .

إنّ الّذي أشار إليه ابن مسكويه هنا من صفة الإنسان الفاضل قد عبّر عنه الشّيخ دراز بأنّه: «الجهد المبدع» وذكر أنّ لهذا الجهد ثلاث درجات:

الأولى: الاختيار الإراديّ المتمثّل في البحث الجادّ عن الحلّ الّذي يجب أن نأخذ أنفسنا به ولا نكل أمر تحديد إرادتنا إلى تصاريف الطّبيعة الخارجيّة ولا إلى حركات فطرتنا الدّاخليّة، وإنّما نسمو فوق جميع الاعتبارات الظّاهرة والباطنة، ويعقب هذا البحث الجادّ إرادة واختيار لهذا الحلّ، وكلّ ما هو دون ذلك فعجز وخور.

الثّانية: وتتمثّل في اختيار الصّالح، ولا بدّ هنا من استلهام روح الشّرع والتّطابق مع قواعده، وقد يحدث في الواقع أن يكون أحد الحلول كافيا ليوصف بأنّه صالح، وأن يكون هناك حلّ آخر أقلّ من أن يستحقّ هذا الوصف، مثال ذلك «الصّدقة» فهذه المساعدة الماليّة الّتي يريد المتصدّقون أن يقدّموها للفقراء قد تختلف على ما لا يحصى من الدّرجات تبعا لكرمهم ابتداء من الفلس»

وانتهاء بهبة الثّروة كلّها، ولكنّ الشّرع الأخلاقيّ في الإسلام لم يدع الأمور فوضى، فالحدّ الأدنى هو الزّكاة المفروضة والحدّ الأقصى هو ثلث الثّروة الكلّيّة، وواجب المسلم (الفاضل) أن يتحاشى الطّرفين المحرّمين، فلا يقلّ عن مقدار الزّكاة ولا يزيد عن الثّلث وهو الحدّ الأقصى المباح.

الثّالثة: تتمثّل هذه المرحلة الثّالثة من الجهد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015