الحديث والفقه، ينتصر
للمذهب الحنفي ويقيم الدلائل على صحته وأرجحيته، وقد نفع الله بدرسه خلقاً كثيراً، وتخرج على
يده عدد كبير من الفضلاء اشتغلوا بتدريس الحديث ونشر العلم.
وظل الشيخ عاكفاً على الدرس والإفادة، منقطعاً إلى مطالعة الكتب، لا يعرف اللذة في غيرها، حتى
حدثت فتنة في المدرسة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف ألجأته إلى الاعتزال عن رئاسة التدريس
وشياخة الحديث فيها، وغادر ديوبند بطلب من بعض تلاميذه وأصحابه فتوجه إلى ذابهيل قرية جامعة
من أعمال سورت في جماعة من أصحابه وتلاميذه، وأسس له بعض التجار مدرسة فيها سموها
الجامعة الإسلامية فعكف فيها على الدرس والإفادة، وانتفعت به هذه البلاد، وأمه طلبة علم الحديث
والعلماء من الآفاق، وبقي يدرس ويفيد حتى برح به داء البواسير وأنهكته الأمراض، فسافر إلى
ديوبند ووافاه الأجل لليلة خلت من صفر سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف، وصلى عليه جمع
كبير من الطلبة والعلماء والمحبين له، ودفن قريباً من بيته عند مصلى العيد.
كان الشيخ أنور نادرة عصره في قوة الحفظ، وسعة الاطلاع على كتب المتقدمين والتضلع من الفقه
والأصول، والرسوخ في العلوم العربية الدينية والتفسير وعلوم الحكمة، يستظهره ما قرأه في ريعان
شبابه، وما طالعه في مكتبة يسرد منه العبارات وينقل منه فلا يخل بمعنى، نهماً بالعلم والمطالعة،
شغوفاً بالاطلاع الجديد، وكان دقيق النظر في طبقات الفقهاء والمحدثين ومراتب كتبهم، منصفاً في
الحكم عليهم، يعترف لشيخ الإسلام ابن تيمية بالفضل والنبوغ، ويصفه بالبحر الزخار الذي لا ساحل
له مع انتقاده له في تفرداته وحدته، ويعترف للحافظ ابن حجر بغزارة العلم وعلو الكعب في صناعة
الحديث، وكان كثير الإعجاب بكتابه فتح الباري دائم الثناء عليه، وكذلك كان كثير الإعجاب بالشيخ
محي الدين ابن عربي في بيان الحقائق والمعارف الإلهية، وكان نقي الذهن صافي الفكرة، سليم
الصدر، سمح النفس، شديد الغيرة على الإسلام، وعقيدة أهل السنة، شديد العداء والبغض للقاديانية،
كثير الرد عليهم، منصرفاً إلى تبيين ضلالهم وكفرهم، يحث أصحابه على ذلك ويوصيهم به، يكتب
ويؤلف ويخطب ويسافر لهذا الغرض.
وكان مربوع القامة يميل إلى القصر، أبيض اللون، صدعاً، تغشاه السكينة، ويعلوه الوقار، خافت
الصوت، لا يتكلم إلا فيما يعنيه، وفيما يتصل بالعلم والدين، مجالسه مجالس علم وإفادة، وقد غلبته
الرقة في آخر حياته، فكان سريع الدمعة كثير البكاء، وغلبه شغف بالحقائق الإلهية والعلوم الدقيقة.
ومن مصنفاته: تعليقات على فتح القدير لابن الهمام إلى كتاب الحج، وتعليقات على الأشباه
والنظائر، وتعليقات على صحيح مسلم وعقيدة الإسلام في حياة عيسى عليه السلام، وإكفار الملحدين
في ضروريات الدين، ونيل الفرقدين في مسألة رفع اليدين، ومشكلات القرآن، وقد جمع بعض
تلاميذه بعض إفاداته في درس سنن الترمذي، وسماه العرف الشذى في مجلد، وجمع بعض كبار
أصحابه بعض تحقيقاته وإفاداته في درس الجامع الصحيح للبخاري، وسماه فيض الباري في أربعة
مجلدات، تولى تأليفها وتحريرها الشيخ بدر عالم الميرتهي.
ومن شعره قوله في مدح شيخه رشيد أحمد الكنكوهي:
قفا يا صاحبي عن السفار بمرأى من عرار أو بهار
يسير بنشرها نفحات أنس وريا عند محى من قطار
يفيض لروحها رشحات قدس حياة للبراري والقفار
وقد عادت صباها من رباها بأنفاس يطيب بها الصحاري
فيسري في قلوب الصحب وجد بأطراف الحديث لدى اعتبار