ثم إن العلم الذي قُرّرت قواعدُهُ المكتملةُ باصطلاحات معيّنة، ينبغي أن نحرص على فَهْمِ مصطلحاته (التي سُبقنا إلى تقرير قواعده بها) على ما كانت عليه، حتى يتسنّى لي فَهْمُ تلك القواعد وفهم ذلك العلم؛ وإلا فلن أفهم تلك القواعد فهماً صحيحاً إن فهمت كلام من أكملوا ذلك العلم بتلك الألفاظ والتعابير على غير مقاصدهم منها، وإن شرحت مصطلحاتهم بخلاف مرادهم منها.
وهذا التقرير يعني: أن هناك مَنْ ينبغي أن يُلْتَزَمَ بتأصيلهم لقواعد العلم، وينبغي أن لا نخرج عن مقاصدهم من مصطلحاتهم ليُفهم عنهم ذلك العلم. وهذا يعني أن هناك من يُحتكمُ إليهم في تصويب تنظير على تنظير ممن جاؤوا بعدهم، وأنّ هؤلاء المتأخّرين إذا خالف أحدُهم في معنى مصطلح من مصطلحاتهم قُضيَ عليه بالخطأ لمجرّد أنه خالفهم.
ومن هنا تتبيّن الأهميّة القصوى لمعرفة من هُمْ أولئك العلماء الذين هم الحَكَمُ في معرفة الصواب والخطأ؛ ولمَ كانوا هُمْ - دون مَنْ سواهم - أصحابَ هذه المنزلة؟.
لقد جاء هذا البحث جواباً عن هذا السؤال الجوهري، واستدلالاً لصحّة هذا الجواب.
وبعد هذا العرض أسأل، وأترك الجواب للمنصفين:
1 - من هم الذين أسسوا علوم السنّة، وبنوا صَرْحها، حتى بلغت حدَّ الاكتمال؟
2 - من هم الذين لم يتركوا لمن جاء بعدهم مجالاً للزيادة في تقعيد علمهم، فلم يَعُدْ بإمكان الذين تأخروا عنهم أن يضيفوا إلى تقعيدهم المكتملِ شيئاً، ولم يَبْقَ عليهم إلا واجب الحفاظ على ذلك العلم العظيم؟
3 - من هم أصحاب الاجتهاد المطلق في ذلك العلم، وعندهم الأهليّة العلميّة الكاملة للكلام في أصول مسائله كلِّها وفي فروعها؟ بخلاف من سواهم، ممن يلزمهم تقليدُ أولئك في بعض أهمّ مسائل العلم، وقد صَرّحوا كثيراً بهذا الالتزام؛ لنقصان أهليتهم العلميّة عن رتبة الاجتهاد المطلق في هذا العلم.