ومن مظاهر هذا التدرّجِ في النقص، أنه لم يكن شاملاً لكل علماء السنّة خلال القرن الرابع. بل لم يزل في علماء السنة خلال القرن الرابع من هم امتدادٌ لعلماء القرن الثالث، دلّت على ذلك شواهدُ الوجود، من المؤلفات والمصنفات التي خلّفوها، في أصول العلم ومختلف فنونه (?) . ولا أدلّ على ذلك أيضاً من أنّ بعض من أرّخوا لذلك التناقص هم من أهل ذلك القرن، ومن أنّهم عرفوا مظاهر ذلك النقص، فلم يكتفوا بالتنزّه عنها، بل سعى بعضهم إلى مقاومتها.

فهذا ابن حبان يعيب على طلبة السنة في زمنه عدمَ العناية بحفظ السنة، والاكتفاء بالجمع كتابة، ويعيب عليهم أيضاً عدم تمييز الصحيح من السقيم. ثم هاهو يؤلف كتابه (التقاسيم والأنواع) على ترتيبٍ لا ينتفع به إلا من حفظه، ويصرّح ابن حبان بهذا المقصد في مقدّمة كتابه (?) . وكتابه هذا خصّه بالصحيح المجرّد عنده، دالاًّ بذلك على أنه لم يخالف إلى ما نهى عنه من عدم تمييز الصحيح من السقيم.

وهذا الإمام الدارقطني (ت 385هـ) ، الذي به خُتِمَ معرفة العلل (كما يقول الإمام الذهبي) (?) ، يتنزّه عن أحد أسباب تناقص علوم السنة في القرن الرابع، وهو العناية بعلم الكلام (?) ، فيقول: ((ما في الدنيا شيءٌ أبغضُ إليّ من الكلام)) (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015