ومن الشهادات المهمّة لإمامٍ متأخّر، شهادةُ مجد الدين ابن الأثير (ت606هـ) ، حيث ذكر مراحل علوم السنة، إلى أن ذكر عَصْرَ البخاريِّ ومسلمٍ وكتابيهما في الصحيح، ثم قال: ((إلى أن انقرضَ ذلك العصرُ الذي كانا فيه حميداً عن جماعةٍ من الأئمة والعلماء، قد جمعوا وألّفوا: مِثْلِ أبي عيسى الترمذي، وأبي داود السجستاني، وأبي عبد الرحمن النسائي، رحمةُ الله عليهم، وغيرهم من العلماء الذين لا يُحصَوْن كثرة. وكأنّ ذلك العصر كان خُلاصةَ العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى. ثم من بعده نَقَصَ ذلك الطلبُ بَعْدُ، وقلَّ الحرصُ، وفَتَرَتْ الهِمَم. وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها، فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً، ولا يزال يَنْمِي ويزيد، ويعظم إلى أن يصل إلى غايةٍ هي مُنْتَهَاهُ، ويَبْلُغَ إلى أمدٍ هو أقصاه، ثم يعود. فكأنّ غايةَ هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما من علماء الحديث، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزدادُ تقاصُراً والهممُ قصوراً، سُنّةَ الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا)) (?) .
وأرّخَ لهذا النقص الإمام الذهبي في غير ما كتابٍ من كتبه (?) ، وقد كنتُ تحدّثت عن هذا النقص وأسبابه في كتابي (المنهج المقترح) .
لكن سبق أن قلنا في التاريخ النظري لهذه المراحل: إن هذا النقص لم يكن هُوِيًّا سريعاً إلى القاع، بل كان نقصاً تدريجيًّا. ولذلك فإن المُتَصَوَّرَ هو أن يبقى في هذا القرن شيءٌ كثيرٌ من خصائص القرن السابق، وستثبت كثيرٌ من ملامح ازدهاره. وإن كان أوّلُه في ذلك أسعدَ حظًّا من آخره، وآخرُهُ لرُبّما كان آخرَ من نال حظًّا غالباً من هاتيك الخصائص والملامح!