فإضافةً إلى ما سبق، فإنه لا أدلّ على بلوغ منهج نقد السنة درجةَ النضج الكامل خلال هذا القرن، من أنه القرن الذي شهد تأليفاً يُمثِّلُ خلاصةَ ذلك المنهج النقدي، ويجعلها حقيقةً مشاهدةً، وذلك بالتأليف في الحديث الصحيح المجرّد، على يدي الشيخين: البخاري ومسلم، حيث بلغ وضوحُ المنهج النقدي لديهما إلى الحدّ الذي اعتُبر معه كتاباهما قمةَ التصنيف الحديثي وقمةَ المنهج النقدي في معرفة الحديث الصحيح، الذي هو خلاصة وثمرة المنهج النقدي كُلِّه. أيستطيع أحدٌ أن ينسى أن الصحيحين أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى؟!! هذا ما اتّفقت عليه الأُمّة، وأجمع عليه العلماء قديماً وحديثاً. وفي هذا الإجماع إجماعٌ من الأمّة على صحّة ذلك المنهج الذي سارَا عليه، بل في ذلك الاتفاق على كونهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى اتّفاقٌ على أن منهجهما أصحّ المناهج على الإطلاق.
نعم.. لقد خرجنا إذن بنقل الإجماع على أن منهج النقد في هذا القرن قد بلغ قمةَ التطوّر!!!
وهذا غاية ما نريد!!!
المرحلة السادسة: وهي القرن الرابع الهجري.
لقد دخل القرن الرابع وهو يحمل إرثاً عظيماً وثقيلاً، لقد كان مِنْ قَدَرِ الله تعالى له أن يكون مرحلةَ ما بَعْدَ الاكتمال، وليس بعد الاكتمال إلا النقص. وهذه سنةٌ سبق الكلام عنها في تاريخنا النظري، فلا غرابة في حصولها.
وقد أرّخَ لها بعضُ شهود العصر وغيرهم:
فهذا ابن حبان (ت 354هـ) يقول في مقدّمة (المجروحين) : ((ولم يكن هذا العلم في زمانٍ قطُّ تعلُّمُه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلَّةِ اشتغال طلبة العلم به؛ لأنّهم اشتغلوا في العلم في زماننا هذا، وصاروا حزبين: فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثرُ هِمّتِهِم الكتابةُ والجَمْعُ، دون الحفظ والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم، حتى سمّاهم العوامُّ حشويّة. والحزبُ الآخر: المتفقّهة ... )) (?) .