ولا أدل على حصول ذلك واقعاً لمنهج النقد خلال القرن الثالث، من أنّ النصف الأول من هذا القرن قد شهد فيه علم العلل (الذي هو معيار النقد) ثراءً بالغاً وتطوّراً عظيماً، على يد أمثال علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم، وهذا ظاهرٌ من خلال ما جُمع عنهم وما ألّفوه في التعليل والجرح والتعديل. ثم على يد الطبقة التالية لهم، من أمثال: البخاري، ومسلم، والدارمي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أهل طبقتهم.
يقول حاتم الرازي: ((كان يُحسن صحيحَ الحديث من سقيمه، وعنده تمييز ذلك، ويُحسنُ علل الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة، كان يحسن ذلك. (فقيل لأبي حاتم: فغير هؤلاء، تعرفُ اليوم أحداً؟) قال: لا)) (?) .
ويقول أبو عبد الله بن منده في كتابه (شروط الأئمة) ، وهو يذكر حفّاظ السنة على مَرّ العصور من مختلف البلدان: ((ثم انتهى علمُ جميع من ذكرناهم من المتقدّمين إلى هؤلاء الأئمة، وهم: أحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر، وعثمان: ابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن عبد الله بن نمير. ومن بعدهم: انتهى علم جميع من ذكرناهم من أهل الأمصار وأئمة البلدان إلى هؤلاء النفر، وهم أهل المعرفة والصحيح، وهم هؤلاء: محمد بن إسماعيل البخاري، والحسن بن علي الحُلْواني، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومسلم بن الحجاج، وأبو داود سليمان بن الأشعث وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي. فهؤلاء الطبقة المقبولة بالاتفاق، وبعلمهم يُحتجُّ على سائر الناس)) (?) .