ويكفي في هذه العجالة أن أُذَكِّر بثلاثةٍ أئمةٍ من هذه المرحلة، بلغوا درجةً سامية في النقد، بل كانوا في الحقيقة أساتذة النقد في هذه المرحلة، وبعلمهم وجهودهم اكتمل النقد بعد ذلك الاكتمال النهائي. إنهم: شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. إنها مدرسة النقد البصريّة، ذات الفضل الكبير على النقد الحديثي كُلّه.

قال يعقوب بن شيبة: ((قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم؟ فقال برأسه، أي: لا. (قال يعقوب:) وسمعتُ علي بن المديني يقول: كان ممّن ينظر في الحديث ويُفتّشُ عن الإسناد، لا نَعْلَمُ أحداً أوّلَ منه: محمد بن سيرين، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن. (قال يعقوب:) قلت لعليّ: فمالك بن أنس؟ فقال: أخبرني سفيان بن عيينة، قال: ما كان أشدَّ انتقاءَ مالكٍ للرجال)) (?) .

لقد بلغت العناية بالنقد في هذه المرحلة، والاطمئنان إلى كمال النّقْل والرواية، إلى حدِّ تقديم النقد وتعلُّمه على الرواية!!

يقول خلف بن سالم المخرِّمي: ((سمعتُ ابن عُليّة يقول: كُنّا نرى عند حميد (يعني الطويل) وسليمان (يعني التيمي) وابن عون الرجلَ والرجلين، فنأتي شعبة، فنرى الناسَ عليه. (قال خلف:) كان أصحابُ الحديث يريدون حُسْنَ المعرفةِ بالرجال وبمعرفة الحديث ... وهكذا، كان هذا المعنى بيِّناً في شعبة إن شاء الله)) (?) .

ويصرِّح بذلك عبد الرحمن بن مهدي، فيقول: ((لأن أعرف عِلّة حديث واحد، أحبُّ إليّ من أن أستفيدَ عشرة أحاديث)) (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015