- لقد نُقِل عن المحدثين اختلافٌ كثيرٌ في آحاد الرواة والأحاديث، وناقش بعضهم بعضاً في كثير من ذلك. فما بال الاختلاف في المنهج لا يُنقل عنهم فيه نقاشٌ ولا اعتراض؟! والحاصل أن نقل اختلاف المنهج أولى وأحْرى (كما سبق) .
كل هذا وغيره يقطع باتّحاد المنهج، وإنّما يَدّعي الاختلاف من لم يُراع تلك الكليّات، ووقف عند بعض العبارات المشتبهة، ليبني عليها مذاهبَ ومناهج!! ومن هُنا أُتي من أُتي في هذا الباب. ولو ردّوا تلك المشتبهات إلى هاتيك المحكمات وأمثالها، لتبيّن لهم الحق بلا ارتياب.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنّا فيه: من التأريخ النظري لعلوم الحديث، والذي خلصنا منه إلى أن الزمن الذي اكتمل فيه تدوين السنة هو نفسه الذي اكتمل فيه نقد الحديث، وأنه لذلك كان منهجُ النقد الذي ينبغي أن يُرجع إليه هو ذلك المنهجَ الذي نشأ وتطوّر حتى اكتمل.
هذا ما كنّا وصلنا إليه أخيراً.
ولكن هناك بقيّةٌ لذلك العرض التاريخي النظري، لابُدّ أن نعرض له.
ذلك أن بلوغ منهج النقد درجة الاكتمال في زمنٍ ما، لاشك أنه سيعني أن بداية النقص ستبدأ من حيث اكتمل، اتّباعاً للسنة الكونية في ذلك:» لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ «. فما بعد بلوغ الغاية إلا النكوص، وما بعد صعود القمة إلا الهبوط.
ولكن هذا النقص لا يصح أن يُتصَوّر أن يبلغ حدَّ الهُوِيّ في القاع، ولا القفزة الواحدة التي تعود بصاحبها إلى حيث بدأ، بل لابُدّ أن يكون نقصاً تدريجيًّا. كما أنّه قد لا يشمل كل علماء ذلك العصر، فقد يبقى بعضهم على إرثه القديم محافظاً عليه.
ولذلك فقد يصح لنا نظريًّا أن نعتبر الزمن الأوّل بعد اكتمال نضج العلم، من أزمان أهل ذلك المنهج الذي يُرجع إليهم ويُحتكم إلى علمهم؛ لأنهم استطاعوا أن يكونوا امتداداً حقيقيًّا للزمن الذي اكتمل فيه المنهج، وأن لا يكونوا مجرّد وعاءٍ لذلك المنهج، بل أن يشاركوا أصحابه في تمام العلم به وكمال الأهليّة فيه.