والنجومَ والبحارَ والأنهارَ والأمَّةَ والحكومةَ والميزانيةَ والسعادةَ والرخاءَ كلَّها خُلِقَتْ لِشَخصِه؛ فهو يَقِيسُ كلَّ المسائل بمقياس نفسِه، ويُديمُ التفكيرَ في نفسِه وعلاقةِ العالم بها، وهذا ـ من غيرِ رَيْب ـ يُوجِدُ البؤسَ والحزنَ؛ فمُحَالٌ أن يجري العالَمُ وِفْقَ نفسِه؛ لأنَّ نفسَه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإنْ هو وسَّعَ أُفُقَهُ، ونظَرَ إلى العالم الفسيح، ونسيَ نفسَهُ أحيَاناً، ونَسِيَ نفسَه كثيراً؛ شَعُرَ بأنَّ الأعباءَ التي ترزحُ تحتَها نفسُه، والقيودَ الثقيلةَ التي تثقلُ بها نفسُه قَدْ خَفَّتْ شَيئاً فشَيئاً، وتحلَّلَتْ شَيئاً فشيئاً.
وهذا هو السببُ في أنَّ أكثر الناس فراغاً أشدُّهم ضِيقَاً بنَفْسِهِ، لأنَّه يجدُ مِن زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجَةِ أنْ يُجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عملِه، وفكَّر في أمته، وفكَّر في عالَمِه؛ كان له من ذلك لذة مزدوجة: لذَّةَ الفِكْرِ وَالعمَلِ، ولذَّةَ نِسيانِ النَّفْسِ.
ونصح الأستاذ أحمد أمين: بأن يقبض الإنسان على زمام تفكيره؛ فيُصَرِّفَهُ كما يشاء؛ فإن هو تعرض لموضوع مُقْبِضٍ، عدل عنه إلى موضوع آخر ...