قوله: "فبيَّن الله -عز وجل- ونزلت {مِنَ الْفَجْرِ} " إشارة إلى أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ناسخ لما كانوا يأكلون ويشربون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فصار هذا بيانًا لهم أن المراد به أن يتميز بياض النهار من سواد الليل.

فإن قيل: كيف يجوز أن يكون المراد بقوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الفجر، ويتأخر البيان مع الحاجة إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع بقاء التكليف لا يجوز؟.

قلت: إن البيان كان موجودًا فيه لكن على وجه لا يدركه جميع الناس، وإنما كان على وجه يختص به أكثرهم أو بعضهم وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفًا في درجة يطلع عليها كل أحد، ألا ترى أنه لم يقع فيه إلا عديّ وحده؟ وأيضًا فإن النبي - عليه السلام -

قال له: "إنك لعريض القفا، وضحك" ولا يضحك إلا على جائز، فافهم.

قوله: "قد كان أشكل على أصحاب رسول الله - عليه السلام - وجه الإشكال عليهم أنهم حملوا اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعًا في لغة قريش ومَن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي - عليه السلام - عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومَن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة؛ لأنه ليس كل العرب يعرف سائر لغاتها، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسمًا للخيط حقيقةً ولبياض النهار وسواد الليل مجازًا، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي - عليه السلام - أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله بعد ذلك {مِنَ الْفَجْرِ} فزال الاحتمال، وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسمًا لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهور ذلك عندهم. قال أبو دؤاد الإيادي:

ولما أَضَاءَت لنا (ظلُمة) (?) ... ولاحَ مِنَ الصُّبحِ خَيطٌ أنارا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015