وهذا خطأ فادح، على خلاف منهج السلف الصالح -من أهل السنة والجماعة- فإن منهجهم إبَّان حلول الفتن، هو عدم تنزيل أحاديثها على واقع حاضر. وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنبأ وحدث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها. مع تنبيه الناس وتحذيرهم من الفتن عامةً. ومن تطبيقها على الواقع الحالي خاصةً.
6 - البعد عن أماكن الفتن وبؤرها:
فالبعد عنها وعدم الخوض فيها أو التعرض لها مسلك شرعي، بل هو مطلب من مطالب هذه الشريعة السمحاء. كيف لا؟ والنبي صلى الله عليه وسلم علق السعادة باجتناب تلك الفتن بقوله: (إن السعيد لمن جُنِّب الفتن ... ) كما حث على تجنبها والهرب منها -أيضاً- بقوله صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنةٌ النائم فيها خيرٌ من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خيرٌ من الماشي، والماشي خير من الراكب، والراكب خيرٌ من المُجري ... )، فبين النووي رحمه الله أن: (معناه: بيان عظيم خطرها والحث على تجنبها والهرب منها ومن التشبث في شيءٍ منها ... ) (?).
هذا وقد تواترت وصايا السلف في التحذير من مواطن الفتن، وأن يشخص لها أحد. فهذا حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يقول: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما تنسف السيل الدمن ... ) (?).
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: (لا تقربوا الفتنة إذا حميت، ولا تعرَّضوا لها إذا عرضت، واضربوا أهلها إذا أقبلت) (?).
7 - لا شك أن الإشاعة تُعدُّ من أمضى الأسلحة التي يستعملها أعداء الأمة، لاختراق صفوفها، والفتك بعضدها، وتمزيق وحدتها، وتكمن خطورتها، وتنشط الدعاية لها، إبَّان الفتن، ففي وقتها تكثر إثارتها، ويزداد ترويج بضاعتها. فالأعداء ما فتئوا يبثون الأقاويل الكاذبة، والشائعات المرجفة، حرصاً منهم على زعزعة أمن المسلمين وأمانهم، وما حادثة الإفك عن ذلك ببعيد، وكذا ما حصل في غزوة أُحد حينما قتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه- أُشيع أن الذي قُتل هو النبي صلى الله عليه وسلم، فانكفأ المسلمون وجيشهم بسبب هذه الشائعات المرجفة. فحفظ اللسان والتبين والتثبت عند سماع الشائعات أو أي نبأ أو خبر مطلب شرعي، لاسيما وقت الفتن، وعند الحروب والمعارك والمحن، فإنه آنذاك أشد وأرغب، وآكد وأوجب. وقد تقدم (?) كل ما يتعلق بذلك من حفظ اللسان أثناء الفتن والتثبت عندها والحذر من الشائعات وقتها ... بما يغني عن إعادته والاستطراد فيه.
8 - ثم إن التعوذ من الفتن، ما ظهر منها وما بطن. مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأمر به أصحابه -رضي الله عنهم- فقال: (تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن) (?) فالتعوذ بالله منها ينجي من الفتن، ويقي من الشرور والمحن. وقد تقدمت الإشارة إلى هذه الوصية بما يغني عن تكرارها.
وبعد: فهذا ما أمكن جمعه واستحضاره من توصيات إبان دراسة موضوع الفتن وموقف المسلم منها. كما أن هناك توصيات أحجمت عن ذكرها هنا خشية الإطالة بيد أن ما ذُكر هنا أهمها.
وإن كان هناك من اقتراحات فهي كما يلي:
1 - أرى وأقترح عقد دورات علمية عملية لخطباء وأئمة المساجد والدعاة. يبين لهم فيها ويُدَرَّس أهم ما يجب على المسلم اتخاذه تجاه الفتن. مع بيان منهج أهل السنة والجماعة، وموقفهم منها، ومن الأحاديث الواردة فيها. كل ذلك بغية أن يُبَيِّن إخواننا الدعاة والخطباء لعامة الناس ما أخذوه واستفادوه من تلك الدورات. وحبَّذا أن تكون تلك الدورات تحت إشراف هيئة كبار العلماء أو نحوها.
2 - كما أقترح إصدار مجلات دورية مختصرة -ما بين فينةٍ وأخرى- يُبيَّن فيها ما سبق في الاقتراح الأول. ولكن بعبارةٍ سهلة وأسلوبٍ يفهمه ويستفيد منه العامة والخاصة.
ويكون إصدار تلك الدوريات وتوزيعها عن طريق جهات رسمية. كمراكز الدعوة والإرشاد، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.
3 - ولو كان ذلك -أيضاً- عن طريق الصحف الصادرة يوميَّاً في كل بلد. والتي يتداولها العامة والخاصة، ويقتنيها أكثر الناس، لكان حسناً. فيُبيَّن لهم فيها على فترات -لاسيما وقت الفتن- ما سبق اقتراحه. كما يكون ذلك كله -أيضاً- تحت إشراف هيئة كبار العلماء، أو الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء ونحوها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.