على خلافه - وكان وجود الخلاف نتيجة لتعدد المفتين وعدم عصمتهم واتساع الدولة الإسلامية بدخول بلدان وأُمم غير عربية في الإسلام.
ثم انضم إلى هاتين الطائفتين بعد ذلك طائفة ثالثة من الأحكام والفتاوي صدرت عن تلاميذ الصحابة من التابعين وتابعيهم ممن درسوا على الصحابة وأخذوا الفقه عنهم أو عمن أخذ عنهم. ثم جاء بعد هؤلاء من الفقهاء والأئمة المجتهدين من فرغ لدراسة الفقه واستنباط قواعده ووضع أُصوله ومبادئه، ورد الأحكام والفتاوي الموروثة إليها، وتفريع المسائل المختلفة عليها، ووضعت فيه المؤلفات ونظمت المناظرات حتى كان من كل ذلك نتاج طيب لا تفارقه جدته ولا تذبل نضرته ولا ينقطع مدده، يتسع لحاجات كل أُمة ويساير تطور كل زمن ولا يستعصي عن الإستجابة إلى المصالح، وكان له فى الأمة الإسلامية آثاره المحمودة في حياتها الإجتماعية ونهضتها الثقافية ووحدتها السياسية ومكانتها الخلقية - إلى أن كان من الحوادث والنوازل ما شغل الناس فصرفهم عنه وتركوا العمل به والبحث فيه وادعى العلم به بعد ذلك جهلة اتخذوه مرتزقاً ووسيلة إلى المال والتقرب من الأمراء والحكام واكتساب الجاه من ذلك التقرب، فوصموه بما هو براء منه ولوثوه بآرائهم وأقوالهم وأفعالهم، ونسبوا إليه النقص بسوء سياستهم، فكان ذلك حجاباً حجبه عن الناس حقباً طويلة، وساعد على ذلك ظهور عصبية عمياء لآراء لا تقوم على حجة، وأحكام لا تستند إلى دليل ولا تصلح للناس، وكان من وراء ذلك خلافات أدت إلى فرقة فرقت بين الناس بقدر ما حدث بينهم من خلاف وما تعدد من مذاهب إلى أن استقر الأمر أخيراً لبعضها واندرس باقيها فلم يبق منها إلى اليوم من له مكانة واتباع سوى مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك بن أنس ومذهب الشافعي ومذهب أحمد ومذهب الزيدية ومذهب الإمامية الإثنى عشرية وقد يضاف إلى ذلك مذهب الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الخارجي.
وهذه المذاهب هي مذاهب الجمهور الإسلامي في جميع الأقطار، وقف عند اتباعها ونبذ ما عداها وجافى من عمل بغيرها على ما قد يكون له من قوة في الدليل وما قد يكون فيه من صلاحية وملاءمة للزمن وترفيه على الناس، وذلك منهم تعصباً بدون حجة وابتداعاً وتركاً للسنة إذ لم يكن معروفاً في عهد السلف الصالح بل ولا في عهد أصحاب هذه المذاهب نفسها. ذلك لأنهم لم يجتهدوا ولم يستنبطوا ليحملوا الناس على اتباعهم وتقليدهم بل كان