فالله سبحانه ينشئ الماء من السحاب إنشاء: تارة بقلب الهواء ما فيلقح به السحاب، وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب. ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها.
ثم تأملوا الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، ثم أنزله إلى الأرض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها، فيرش السحاب الماء على الأرض رشًا، ويرسله قطرات مفصلة لا تختلط منه قطرة بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره. فلو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا منها قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. أنزله ومعه رحمته إلى الأرض.
ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا ما أخذت الأرض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما في الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار وعفنت الزرع والخضراوات وأرخت الأبدان وخثرت الهواء فحدثت ضروب من