فيبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة. وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها.
وجعل سبحانه الريح للسفن بقدر لو زاد عليها لأغرقها، ولو نقص عنه لعاقها.
والرياح تحمل الصوت عند اصطكاك الأجرام وتؤديه إلى مسامع الناس فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار. كالبريد والرسول الذي من شأنه حمل الأخبار. وتَحْدُثُ الحركات العظيمة من حركاتهم فلو كان أثر هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب والقرطاس لامتلأ العالم منه، ولعظم الضرر به، واشتدت مؤنته، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء والاستبدال به أعظم من حاجتهم إلى استبدال الكتاب المملوء كتابة فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء قرطاسًا خفيفًا يحمل الكلام بقدر ما يُبَلِِّغُ الحاجة ثم يمحى بإذن ربه فيعود جديدًا نقيًا لا شيء فيه فيحمل ما حمل كل وقت.
فسل الرياح من أنشأها بقدرته، وصرفها بحكمته، وسخرها بمشيئته، وأرسلها بشرى بين يدي رحمته. جعلها سببًا لتمام نعمته، وسلطانًا على من شاء بعقوبته، ومن جعلها رُخَاءً، وذارية، ولاقحة، ومثيرة، ومؤلفة، ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات. وجعلها قاصفًا، وعاصفًا ومهلكة، وعاتية، إلى غير ذلك من صفاتها. فهل ذلك لها من نفسها وذاتها، أم بتدبير مدبر شهدت الموجودات بربوبيته، وأقرت المصنوعات بوحدانيته، بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.