فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم. فمن كان عالمًا بالله وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه. ومن آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض؛ فإنه تعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى، وثواب الآخرة، وعلو درجاتها، ولذة الطاعة؛ وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك وقد يعاجله الموت، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب دواء.
وممن أفنى عمره في الغفلة والبطالة ما روى الواحدي في كتاب «قتلى القرآن» أن رجلاً من أشراف أهل البصرة كان منحدرًا إليها في سفينة، ومعه جارية له، فشرب يومًا وغنته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى: تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه- وكان الفقير حسن الصوت- فاستفتح وقرأ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78] فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء، فقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 27] فوقعت في قلبه، فرمى ببقية الشراب في الماء وكسر العود.
ثم قال: يا فتى: هل ههنا فرج؟ قال: نعم {قُلْ يَا عِبَادِيَ