ثم إنه سبحانه جعل «الحناجر» مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملامسة لتختلف الأصوات باختلافها، فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان. فميز سبحانه بين الأِشخاص بما يدركه السمع والبصر. فتأمل هذه الحكم الباهرة في اتصال النّفس إلى القلب لحفظ حياته، ثم عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببًا لهذه المنفعة العظيمة.
وأما «الفم» فمحل العجائب، وباب الطعام والشراب والنفس والكلام، ومَكَنُّ اللسان الناطق الذي هو آلة العلوم، وترجمان القلب ورسوله المؤدي عنه، وفيه منفعة الذوق والإدراك وتحريك الطعام (?) والدليل على اعتدال مزاج القلب وانحرافه، وعلى استقامته واعوجاجه، وعلى أحوال المعدة والأمعاء، وجعله سبحانه عضوًا لحميًا لا عظم فيه ولا عصب ليسهل عليه القبض والبسط والحركة الكثيرة في أقاصي الفم وجوانبه.
وأما «الأسنان» فلما كان الطعام لا يمكن تحوله إلا بعد طحنه جعل الرب تبارك وتعالى آلة للتقطيع والتفصيل، وآلة الطحن فجعل آلة القطع وهي الثنايا وما يليها حادة الرأس ليسهل بها القطع. وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرءوس عريضة ليتأتى بها الطحن، ونظمها أحسن نظام كاللؤلؤ المنظم في سلك، أنبتها سبحانه من نفس اللحم، وتخرج من خلاله كما ينبت الزرع في الأرض (?) .