وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم، وهذه الرهبانية لم يشرعها الله ولم يجعلها مشروعة لهم، بل نفى جعله عنها كما نفى ذلك عما ابتدعه المشركون بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (المائدة: 103).
وهذا الجعل المنفي عن البدع هو الجعل الذي أثبته للمشروع بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، وقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67)، فالرهبانية ابتدعوها لم يشرعها الله.
وللناس في قوله (رهبانية) قولان:
أحدهما: أنها منصوبة يعني: ابتدعوها إما بفعل مضمر يفسره ما بعده، أو يقال: هذا الفعل عمل في المضمر والمظهر كما هو قول الكوفيين حكاه عنهم ابن جرير وثعلب وغيرهما ونظيره قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} (الإنسان: 31)، وقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالةُ} (الأعراف: 30) وعلى هذا القول فلا تكون الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة.
والقول الثاني: إنها معطوفة عليها فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة ويكون هذا جعلًا خلقيًا كونيًا، والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (القصص: 41).
وعلى هذا القول فلا مدح للرهبانية؛ لأنها في القلوب فثبت أنه على التقديرين ليس في القرآن مدح للرهبانية. ثم قال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي: لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله بفعل ما أمر به لا بما يبتدع. وهذا يسمى استثناء منقطعا كما في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النساء: 157)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: 29)، وقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}