وجميع النظم والشرائع، والآداب والسنن التي يتضمنها هذا القرآن إنما تقدم قبل كل شيء على الإيمان.
فالذي لا يؤمن بالله، ولا يتلقى القرآن على أنه وحي من الله لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي، ولا يسر بما فيه من بشارات.
إن في القرآن كنوزاً ضخمة من الهدى والمعرفة، والحركة والتوجيه، والآداب والسنن، والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز، ولا يمكن أن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9].
والذين آمنوا حق الإيمان حققوا المعجزات بهذا القرآن.
أما حين يكون القرآن كتاباً يترنم المترنمون بآياته، تستلذ بها الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فحينئذ لا ينتفع به أحد، ويظل كنزاً بلا مفتاح كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
إن الإيمان أعظم نعمة أنعم الله بها على البشرية فمنهم من قبلها، ومنهم من ردها، والإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال.
فلا يكفي أن يقول الناس آمنّا، بل لا بد أن يتعرضوا للفتنة، ليخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به.
وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، وهذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية لا تتبدل في ميزان الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3].
والله تبارك وتعالى يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مستور عن علم البشر.