إنها ساعات حرجة في حياة الرسل والباطل ينتفش ويطغى، ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد، فلا يتحقق لهم في هذه الأرض، فتهجس في خواطرهم الهواجس.
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه البشر في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110].
تلك سنة الله في الدعوات، لا بدَّ من الشدائد، ولا بدَّ من الكرب، حتى لا تبقى بقية من جهد، ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من باب واحد من عند الله العزيز الحكيم، فينجو الذين يستحقون النجاة .. وينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين .. وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون .. ويحل بأس الله ونقمته بالمجرمين، فلا يحسبن أحد أن شأن الدعوة هين، وشأن الإيمان سهل، بل لا بدَّ من الابتلاء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214].
وذلك كي لا يكون النصر رخيصاً، فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً، والأدعياء لا يتحملون تكاليف الدعوة، فلا بدَّ من الابتلاء والصبر في محل الشدائد التي لا يصمد لها إلا الصادقون، الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.
إن الدعوة التي كلف الله وشرف بها الأنبياء وأتباعهم ليست تجارة قصيرة الأجل، قد تخسر فيتركها إلى أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة.