لغة: يدور حول الضم والتأليف، النظم: التأليف، نظمه ينظمه نظما .. ونظمت اللؤلؤ، أى جمعته فى السلك. كما فى لسان العرب (1)
ونظرية النظم مركب إضافى، المراد منه نوع مخصوص من العمل أو الفنون القولية، لأنه لولا هذا التركيب الإضافى لشمل النظم كل الفنون الأدبية، والقولية بوجه خاص، فكان يشمل الشعر= (النظم- المنظوم).
ولكن بإضافة (نظرية) إلى (النظم) تحدد المعنى المراد بكل دقة، ودخل فيه الشعر، لا باعتبار تمييزه عن (النثر) بجميع أجناسه من قصة وأقصوصة وخاطرة، ولكن باعتبار خاص يشمل جميع الفنون القولية، إذا توفرت فيه شرائط النظم المضاف إليه كلمة (نظرية).
واصطلاحًا: إحكام التأليف وجماله، لا مطلق ضم لفظ إلى آخر، أو إتباع جملة جملة أخرى، أو كلام يتلو كلاما، ما لم يكن وراء هذا الضم نظر فاحص، وفكر عميق، وتدبر دقيق.
وقد نشأ مصطلح (النظم) أول ما نشأ فى حقل الدراسات القرآنية المتصلة بالكشف عن وجوه الإعجاز فى القرآن الكريم، وكان أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هو أول من أشار إلى هذا المصطلح، قال "وفى كتابنا الُمنَزَّل ما يدلنا على أنه صدْقُ، نظمه البديع الذى لا يَقُدر على مثله الَعباد، مع ماسوى ذلك من الدلائل التى جاء بها" (2)
وقد نصن كثير من أهل العلم أن لأبى عثمان الجاحظ كتابا فى إعجاز القرآن، دعاه، (نظم القرآن) لكنه فُقِد (3)، ولم يعثر عليه أحد حتى الآن.
وللجاحظ تحليلات فى بعض كتبه، مثل (البيان والتبيين) تدل عن منهجه الذى سلكه فى كتابه المفقود (نظم القرآن).
وبعد الجاحظ أوجز الخطابى (4) فكرة النظم فى أسلوب القرآن، فذكر أن النظم البديع بعامة يبدأ من اللفظ المفرد، ويتدرج حتى يشمل مقدارًا صالحا من الكلام.
وفى اللفظ المفرد قال "لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، هذا هو جمال الألفاظ مفردة".
أما جمال النظم فى أسلوب القرآن، الذى أرجع إليه الخطابى وجه الإعجاز فقد صاغه فى العبارة الآتية:
"اعلم أن القرآن إنما صار مُعْجِزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ، فى أحسن نظوم التأليف، مُضَمَّنا أصح المعانى (5)
ويقاربه الرُّمَّانى، فالنظم عنده هو (التلاؤم) وهو غير مقصور على القرآن بل المقصور على القرآن من التلاؤم هو ما كان فى درجاته، قال:
" التلاؤم نقيض التنافر، والتلاؤم: تعديل الحروف فى التأليف، والتأليف على ثلاثة أوجه: متنافر، ومتلائم فى الطبقة الوسطى، ومتلائم فى الطبقة العليا .. والمتلائم فى الطبقة العليا هو القرآن كله" (6) وهذا ماقدَّره، القاضى أبو بكر الباقلانى، وهو من أبرز الأقدمين فى دراسة الإعجاز، ومن أقواله فى النظم:
"فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله- يعنى فى غير القرآن- اتفاقًا) (7) ويطلق القاضى عبد الجبار، أحد أئمة المعتزلة، على النظم مصطلح (الضم) ويرجع الفصاحة والبلاغة إلى حسن ضم الكلّمات، ولابد مع هذا الضم من معنى مخصوص) (8) ثم جاء الإمام عبد القاهر الجرجانى خلال القرن الخامس الهجرى، وقد تجمعت لديه أقوال من سبقه فى فكرة النظم، فوسَّع مجال البحث فيها، وأبدأ وأعاد، ووقف كتابه "دلائل الإعجاز" كله على تأصيل ما سمى بعد "نظرية النظم " وكان طويل الباع فى هذا المجال، وساق مئات الأمثلة والشواهد، على أن إعجاز القرآن ليس فى اللفظ المفرد، ولا في المعنى المدلول عليه بذلك اللفظ، بل إعجازه يرجع إلى نظمه البديع، ولا يخرج عن النظم عنده- ترتيب المعانى فى النفس، ثم الإفصاح عنها فى كلام يراعى التآخى بين معانى النحو فى الكلم، على حسب الأغراض، التى تقصد (9)، ولكثرة حديثه عن النظم، وتأصيله إياه، كادت هذه النظرية أن ترتبط باسمه، وكأنه أبو عذرتها. والأسس التى أقام عليها الإمام عبد القاهر فكرة النظم تبدأ- كما تقدم- من اللفظ المفرد، بسلامته من الخلل والعيوب القادحة فى فصاحته، كالوحشية، والغرابة، والثقل على اللسان، ثم اختيار اللفظ فى نفسه، وباعتبار معناه، وموضعه فى الجملة، ومناسبته لما تقدم عليه أو تأخر، عنه، والأحوال التى تتوارد عليه، من تقديم وتأخير وذكر وحذف، وإظهار وإضمار، وموصولية وإشارة، وتعريف وتنكير، وقصر واطلاق، وفصل ووصل، ووضوح وغموض .. إلخ. وبعد أن درس الإمام عبد القاهر هذه الخصائص البيانيه الدقيقة، وبين ما يعترى الكلام بسببها من مزايا أو عيوب، جاء علماء المعانى من بعده وجعلوها أساسا لما اصطلحوا على تسميته بعلم المعانى" بمباحثة الثمانية المعروفة (10) وكان ما تقدم لعلماء العربية من نظرات وأبحاث حول (النظم) ممهدا لفن عظيم من فنون "النقد " العالمى الحديث، وهو: دراسة العلاقات الجمالية بين الألفاظ والتركيب فى العمل الأدبى بكل أجناسه وفنونه. (11)
أ. د/ عبد العظيم إبراهيم المطعنى