الحديث عن نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم يشمل المدة من مطلع حياته حتى زواجه من السيدة خديجة رضى الله عنها وعمره خمس وعشرون سنة، وهى مدة تمتد بالتاريخ والميلادى من سنة 571م إلى 595م، وفى هذا النطاق نسجل الأحداث التالية التى تصور بإيجاز هذه النشأة: ولد الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل من أبوين كريمين هما عبدالله بن عبدالمطلب، والسيدة آمنة بنت وهب، وقد توفى والده ومحمد صلى الله عليه وسلم لايزال جنينا فى بطن أمه. ولما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبدالمطلب أن ولد لك غلام (حفيد) فأسرع إلى البيت، وأخذه ودخل به الكعبة وأخلت يدعو الله، ويشكرله ما أعطاه، ومما روى فى ذلك أن عبدالمطلب أنشد أرجوزة مطلعها:
الحمد لله الذى أعطانى هذا الغلام الطيب الأردان وأرضعته امرأة من بنى سعد بن بكر يقال لها حليمة ابنة ذؤيب، وقد امتلأ ثدياها، باللبن بعد أخذه، ونالها خير كثير، وانتقلت حياتها من العسر إلى اليسرويذكرابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لايقبل إلا على ثدى واحد، وكأنه فطر على أن يدع الثدى الثانى لأخته من الرضاعة.
لما تمت رضاعته عادت به حليمة إلى أمه، بعد سنتين، وبينما كانت تحرص على أن تعود به لمنازل بنى سعد، لمارأت فى وجوده عندها بى من الخير وتقول حليمة: كلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابنى عندى حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه واء مكة .. ولم تزل بها حتى ردته معها، حدثت أحداث عند حليمة تتصل بمحمد صلى الله عليه وسلم خافت حليمة عليه وأعادته، وقد رعى محمد صلى الله عليه وسلم الغنم فى صحبة إخوته من الرضاعة.
توفيت أمه السيدة آمنة وهو فى السادسة من العمر، وكانت وفاتها بالأبواء بين مكة والمدينة، فقد كانت قدمت به على أخوال أبيه من بنى النجار، فماتت وهى راجعة إلى مكة، فتولى جده عبدالمطلب الإشراف عليه ورعايته.
يقول ابن إسحاق: إنه كان لعبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم فراش يوضع له فى ظل الكعبة وكان أبناء عبدالمطلب يتلسون حول هذا الفراش، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم جلس على وهذا الفراش وهو دون الثامنة، فأراد أعمامه أن يؤخروه، فقال لهم عبدالمطلب: دعوا ابنى إن له شأنا وأجلسه معه على الفراش.
توفى عبدالمطلب ومحمد صلى الله عليه وسلم فى الثامنة من عمره، فكفله عمه أبو طالب الذى كان الشقيق الوحيد لعبدالله والد الرسول، ومع أبي طالب واصل محمد صلى الله عليه وسلم الرعى لغنم عمه، ولما اشتد عوده عمل فى تجارة عمه.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم وهو يرعى الغنم يعنى بأغنامه عناية كبيرة فى مرعاها وسقيها، وإذا ولدت شاة أو مرضت اهتم بها كل الاهتمام، فكثرت بذلك أغنامه، حتى كان بعض الناس يطلبون من أبى طالب أن يضموا أغنامهم لأغنامه لتنال عناية محمد صلى الله عليه وسلم ولتنمو وتكثرة ولذلك سمى "الأمين".
وحفظه الله من أى انحراف، وروى عنه أنه قال: (لقد رأيتنى فى غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض مايلعب به الغلمان، وكلنا قد تعرى وأخذ إزاره، فجعله على كتفه ورقبته يحمل عليه الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمنى لاكم - ما أراه لكمة موجعة، وقال: شد عليك إزارك، قال فأخذته ولبسته. فكنت كذلك بين أصحابى، وحملت الحجازة على كتفى بدون إزار).
رلما اشتغل بتجارة عمه، كان صادقا فى عرض السلع وقانعا بربح مناسب ولذلك سمى "الصادق" وأصبح معروفا فى قومه بالصادق الأمين.
ووقعت حرب الفجار وعمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة، وكانت بين قريش ومعها كنانة. وبين قيس عيلان، وسميت الفجار لحدوثها فى الشهر الحرام مما يعد فجورا، ويذكر ابن هشام أن حرب الفجار امتدت حتى أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم فى العشرين من عمرة\هـ وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أيامها ويروى عنه قوله (كنت أنبل على أعمامى فى الفجار).
ووصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى عهد الشباب، وكان واضحا أنه لم يعبد صنما قط، وبغضت له الأوثان، ودين قومه، وتنزه عن مذمومات الجاهلية التى كان يغرق فيها شباب العرب فى ذلك العهد.
طلبت السيدة خديجة محمدا صلى الله عليه وسلم ليتاجر فى مالها، فقبل وقبل عمه أبو طالب، وتهيأ للسيدة خديجة بذلك أن تتعرف إخلاصه وأمانته، فخطبته لنفسها، وتم زواجه بها، وكان عمره آنذاك خمسا وعشرين سنة، وكانت هى أكبر منه، وكانت السيدة خديجة تسمى الطاهرة فى الجاهلية والإسلام، وأنجب منها الرسول صلى الله عليه وسلم كل أولاده الذكور والإناث إلا إبراهيم، فقد كان ابنه من مارية المصرية.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم مبلغ الرجال كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأبرهم جوارا، وأعظم حلما، وأصدقهم حديثا، وأكثرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش وعن الأخلاق التى تدنس الرجال.
ومعرفتنا الدقيقة بمراحل نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم تشبه معرفتنا الدقيقة بجميع مراحل حياته، وهذا الوضوح هو الذى جعل جوستاف ليبون يقول: إذا استثنينا محمدا لانجدنا مطلعين على حياة مؤسس ديانة اطلاعا صحيحا.
أ. د/أحمد شلبى