لغةً: الموشحات جمع موشحة أو موشح مأخوذ من الوشاح، يقال "توشَّحت المرأة واتَّشحتْ " أى لبستْ (وشَاحها) وهو "أديم عريض من الجلد يرصَّع بالجوهر فتشده المرأة بين عاتقها وكشحها" لإتمام زينتها وإبراز جمالها كما فى لسان العرب.
واصطلاحاً: فنٌّ مستحدث من فنون النظم الشعرى يربطه بأصله اللغوى طلب الزينة والزخرف الجمالى والتأثير الشعورى كالوشاح ومن هنا ذكر المحبىِّ: "أن الموشح سُمِّى بذلك لأن خرجاته وأغصانه كالوشاح.
نشأ هذا الفن فى الأندلس الإسلامية فى أواخر القرن الثالث الهجرى- التاسع الميلادى - استجابة وتفاعلا مع مجموعة من الأسباب والبواعث الفنية واللغوية والاجتماعية والمحلية، بعد أن ملَّ بعض الشعراء الأندلسيين النظم على وتيرة واحدة، وتاقوا إلى التنويع والتجديد فاخترعوه، ولست مع بعض الدارسين المعاصرين الذين يُطلقون على الموشحة أنها (ثورة) على القصيدة العربية، لأنَّ ذلك يوُهم أنها نجحت فى هدم النظام الإيقاعى للقصيدة من جذوره والانفصام المطلق عنه، وهذا لم يقع! وإنما هى فيما أرى مجرد حركة تجديدية لا تتجاوز محاولة التنويع فى دائرة الوزن والقافية فى حدود نظام مُعَّين ومصطلحات جديدة حاول أصحابها الالتزام بها دون أن يتجاوزوا هذه الدائرة الإيقاعية إلى المضمون والمحتوى الفكرى من جهة، ودون أن يستطيعوا الانفلات المطلق من معطيات التقفية والإيقاع الموسيقى فى الشعر العربى من جهة أخرى كما سنرى، وظل هذا الفن يتطور على أيديهم حتى بلغ غاية نضجه وازدهاره عندهم، ثم انتقل إلى بلاد المشرق الإسلامى فعرفه شعراء مصر والشام، وشاركوا فى ممارسة إبداعه منذ القرن السادس الهجرى- الثانى عشر الميلادى- وإن غلب على المتأخرين منهم التكلف فى أدائه. ونتيجة لقبوله للغناء واتصاله الوثيق به تمثَّلتْ أبرز خصائصه الفنية فيما يأتى:
1 - يختلف عن فنون النظم الأخرى بالتزامه نظاما خاصا فى التقفية، وبخروجه على وحدة الوزن الموروثة فى القصيدة العربية.
2 - وبخروجه على بحور الخليل أحيانا.
3 - وبخلوه من الوزن تماما فى بعض الأحيان اكتفاءً بالتلحين الموسيقى الذى قد يقوم عندهم مقام الوزن الشعرى.
4 - كما يختلف عن غيره باستعماله اللغة الدارجة أو الأعجمية فى بعض أجزائه.
5 - وبتقسيمه إلى أجزاء اصطلاحية لا توجد فى غيره، وهى التى تشكل بناءه الموسيقى الجديد بعد أن تمَّ نضجه واكتمل استواؤه كما سيأتى.
ولم يتضح معالم هذا البناء الموسيقى إلاّ بعد أن تجاوز هذا الفن الجديد مرحلتى نشأته وتطوره فى العهدين: المروانى ثم الطائفى. ودخوله عصره الذهبى فى العهدين: المرابطىِّ ثم الموحدىِّ حين انصرفت إلى نظمه جهود مجموعة من أعلام الشعراء فى القرنين السادس والسابع الهجريين- الثانى عشر والثالث عشر الميلادى- فى الأندلس من أمثال الأعمى التطيلى المتوفَّى سنة 520 هـ/1126م، وابن بقىّ المتوفَّى سنة 540 هـ/1145م، وابن باجة المتوفى سنة 533 هـ/1138م، وأبى بكر محمد ابن عبد الملك بن زهر الحفيد المتوفى سنة 595 هـ/1198م والشيخ محيى الدين بن عربى المتوفى سنه 638 هـ/ 1240م وأبى إسحاق إبراهيم بن سهل المتوفى سنه 649 هـ/1251م ثم جاء ابن سناء الملك الشاعر والوشَّاح والناقد المصرى المتوفى سنة 608 هـ/1211م فرصد لأول مرة معالم هذا البناء فى كتابه (دار الطراز فى عمل الموشحات) بصورته المكتملة الناضجة بالشكل الآتى:
1 - المطلع: وهو الجزء الأول من الموشحة ويُقابل مطلع القصيدة، ووجوده ليس شرطا لازما، بل يُذكر المطلع فى الموشحة وتسمَّى حينئذ (بالموشحة التامَّة) وقد يحذف فيسمى الموشح حينئذ (الموشح الأقرع) وأقل أشطار أى أجزاء المطلع اثنان، ويمكن أن تصل إلى ثمانية أشطار تُكتبُ أفقية أو عمودية.
2 - الغصن: وهو الجزء الذى يعقب المطلع فى الموشح التام، ويبدأ به الموشح الأقرع، ويتكون من أشطر ثلاثة فأكثر موحدة القافية فى الغصن الواحد، ويتكرر الغصن خمس مرات فى غالب الأمر (وتتنوع قافيته كلما تكرر) (ويلتزم وزنا واحدا فى الموشحة كلها).
3 - القفل: وهو الجزء الذى يتكرر فى الموشحة كلها متفقا مع المطلع (وزنا وقافية) وعدد أجزاء ويتكرر ست مرات فى (الموشح التام) وخمس مرّات فى (الموشح الأقرع) والمطلع فى كل موشح هو (القفل الأول) و (القفل الثانى) ما يلى (الغصن الأول) وهكذا تجد عقب كل غصن قفلا، ويلاحظ ضرورة الالتزام (بوحدة الوزن والقافية معا) فى جميع الأقفال.
4 - الدُّور أو البيت: وهو فى أرجح الآراء مجموع كل غصن مع القفل الذى يليه وقيل غير ذلك، وواضح الفرق بين (البيت) فى الموشحة بالمعنى المذكور والبيت فى القصيدة الذى يتكون من شطرين هما الصدر والعجز تتكرر صورته من أول القصيدة إلى آخرها كما هو بدهىّ وتتوالى أبيات الموشحة لتصل إلى خمسة أبيات غالبا بينما لاحدّ لأكثر الأبيات فى القصيدة.
5 - السِّمط: هو كل جزء أو شطر من أشطار الغصن، ولا يقل عددها فى كل غصن عن ثلاثة، وقد تزيد حسب رغبة الوشَّاح، وعددها فى الغصن الأول من الموشحة هو الذى يحدد عددها فى الأغصان الباقية، واشترطوا أن تكون أسماط كل غصن (موحدة القافية) فيما بينها، أما أسماط الأغصان الأخرى فلا يشترط فيها وحدة القافية مع سابقتها أو لاحقتها، هذا وقد يكون السمط مفردا أى من فقرة واحدة أو شطر واحد، وقد يكون مركبا من فقرتين أو أكثر، وعدد فقرات السمط الأول هو الذى يحدد فقرات بقية الأسماط كما أن قافية فقرات السمط الأول (يشترط توحيدها وتماثلها فى الأجزاء الداخلية فى كل سمط على حدة وإلاّ عِيب الموشح وسقطت فنيّته)، وكما يطلق السمط على أجزاء الغصن يطلق كذلك على أجزاء القفل وأشطاره.
6 - الخرجة: وهى القفل الأخير من الموشح وهى ركن أساسى فى بناء الموشحة ولا يمكن الاستغناء عنها بينما يمكن الاستغناء عن القفل الأول، وهو المطلع فى (الموشح الأقرع) والأفضل فى الخرجة أن تخالف لغتها لغة بقية الموشحة لتتسع دائرة المتلقين لها من الطبقات الشعبية المختلفة، وذلك بأن تأتى عامية، أو أعجمية، أو فصيحة غير معربة، كما يقدم لها بما يمهد لورودها مثل: قالت وقلْتُ، وغنّى وغنَّيتُ وأنشد وأنشدت وتأتى على ألسنة صبيان أو نسوة، إلى آخر ما ذكره ابن سناء الملك فى كتابه (دار الطراز فى عمل الموشحات) (3). وبالتتبع الموضوعى المنصف لمعالم التجديد فى البناء الموسيقى السابق يمكننا أن نلاحظ أمورا ثلاثة لابد من لفت الأنظار إليها، لصلتها الوثقى بمسيرة الشعر العربى فى ماضيه وحاضره ومستقبله جميعا:
أولها: أنَّ اختراع الموشحات لم يكن- كما يتوهم بعض الحداثيين المعاصرين الذين انسلخوا عن تراث الأمة وماضيها العريق وثوابتها الباقية- لم يكن هدما للإيقاع الموسيقى فى الشعر العربى، ولا انفلاتا مطلقا من ضوابطه وقواعده، لأنَّ بناء الموشحة وإن اشتمل على حرية التغيير والتنويع فى الوزن والقافية من جانب إلاَّ أنَّ فيه- فى الوقت نفسه- تقيدا والتزاما بالتوحّد والتماثل من جانب آخر، سواء أكان ذلك فى الوزن أم فى القافية أيضا:
(أ) أما على مستوى القافية:
فتتمثل الحرية والتنويع فى الأغصان، حيث تغاير قافية كل غصن قافية بقية الأغصان.
كما يتمثل الالتزام بالتوحُّدِ والتماثل فى الأقفال، حيث اشترطوا ضرورة أن تتحد قوافيها فى الموشحة كلها.
(ب) وأما على مستوى الوزن:
فتتمثل الحرية والتنويع فى جواز استخدام البحر الذى تصاغ على وزنه الموشحة فى عدة حالات من حالاته أى من حيث التمام والجزء والشطر، وبعبارة أكثر وضوحاً: يجوز فى الموشحة أن يكون بعض أشطارها من بحر على تفاعيله التامة، وأن تكون بعض الأشطار الأخرى من البحر نفسه، ولكن على تفاعيله المشطورة أو المجزوءة: فتأتى بعض الأشطار طويلة عديدة التفاعيل، وتأتى أخرى فى الموشحة نفسها قصيرة قليلة التفاعيل، وقد تأتى بعض الأشطار من بحر والبعض الآخر من بحر آخر.
كما يتمثل الالتزام بالتوحد والتماثل فى وجوب أن يأتى كل جزء من الأجزاء المتماثلة فى الموشحة على وزن موحد، والأجزاء المتماثلة هى: الأغصان مع الأغصان، والأقفال مع الأقفال، فإذا جاء الغصن فى الفقرة الأولى على وزن معين يجب أن تأتى كل الأغصان على الوزن نفسه،
وإذا جاء القفل الأول على طريقة خاصة من حيث طول الأشطار، وقصرها من بحر ما فيجب أن تأتى كلُّ الأقفال على الطريقة نفسها، وقد عرفنا سلفاً أن تلك الأقفال يجب أن توافق المطلع فى الوزن والقافية معا.
ثانيها: أن الموشحات على الرغم ممَّا استحدثه من وفرة النغم وعذوبته ورشاقة الحركة الموسيقية وحيويتها وتنوع أجوائها الجديدة إلاّ أنَّ إيقاع القصيدة الموروث- المجسّم فى وحدة الوزن والقافية- ظلّ نظامه باقيا وله السلطان الأعلى فى عالم الشعر عند الأصلاء من المبدعين الموهوبين فى أمه العرب والإسلام إلى يوم الناس هذا، وذلك لارتباطه الوثيق بالذوق العربى الأصيل، وبطبائع الأمة وأعرافها وقيمها الصوتية والجمالية المتوارثة منذ أن ضبط الخليل بن أحمد أوتار هذه القيثارة لفن العربية الأول (الشعر).
ثالثها: من أهم نتائج الوقوف على عنصرى هذا التجديد الذى يجمع فى وقت واحد بين الحرية والالتزام فى بناء الموشحة أنه يُسقط دعاوى الحداثيين المتشاعرين الذين ظنوُّ ظنَّ السَّوْءِ بالموشحة الأندلسية، وفهموا خطا أنها هِدْم للإيقاع الموروث، وانفلات "مطلق" من قواعده وضوابطه، واتخذوا من ذلك ذريعة إلى، فرض عجزهم على حركة الشعر العربى، الحديث حين تصوروا القاعدة قيدا. والضابط عائقا يحول بينهم وبين التحليق فى سماء الإبداع الشعرى، فتنادَوْا بالانفلات التام من وحدة الوزن والقافية ليحققوا التجديد الحر المنشود والتحليق المزعوم، ولكنهم سقطوا سقوطا فاضحا، وأخفقوا، إخفاقاً ذريعاً.
والحقيقة التى لا محيد عن الاعتراف بها لدى كل منصف أن عجز هؤلاء الحداثيين الجدد، وضعف أجنحتهم عن التحليق فى سماء القصيدة العربية، هو المسئول عن سقوطهم، واكتفائهم بما يسمونه (بشعر التفعيلة) تارة و (بقصيدة النثر) تارة أخرى مما ترفضه بل تلفظه- عاجلا وآجلا- حركة التاريخ الأدبى لهذه الأمة.
أ. د/ جلال حجازى