لغة: درى الشيء وبه أى علمه (كما فى اللسان) (1)
واصطلاحا: مذهب فلسفى تقول به فرقة من الفرق السوفسطائية وقد ظهرت السوفسطائية فى الفكر اليونانى السابق على سقراط وبرع هؤلاء فى الجدل والمغالطة، وعارضوا المذاهب الفلسفية والمبادئ الخلقية، وضربوا بعضها ببعض، وجادلوا فى أن هناك حقا وباطلا، وخيرا وشرا، وصوابا وخطأ، وقالوا: إن الإنسان هو مقياس كل شئ، فهو مقياس النفع والضر، والخير والشر والعدل والظلم. وذهب بعضهم إلى أنه لا يوجد شيء، وأنه إذا وجد شيء فالإنسان قاصر عن إدراكه. وإذا افترضنا أن إنسانا أدركه فإنه لن يستطيع إبلاغه لغيره من الناس.
وهكذا أثار السوفسطائيون الشكوك حول المعرفة وأسسها، وجعلوا الوصول إلى الحقائق واليقين أمرا عسيرا أو متعذرا.
(أ) وقد شكك السوفسطائيون فى الحسيات، بسبب أخطاء الحواس فالأحول قد يرى الواحد اثنين، والعين ترى المتحرك- كالظل- ساكنا، وراكب السفينة يراها ساكنه، على حين يرى الشاطئ متحركا. والوجه يُرى فى المرآة طويلا وعريضا ومُعْوجّاً بحسب شكل المرآة. والنائم يرى فى نومه ما يجزم به، مثلما يجزم بما يراه فى يقظته، والمريض لايحس طعم الأشياء فى فمه على حقيقتها، وهكذا.
(ب) ثم شككوا فى البديهيات، بسبب اختلاف الآراء، واعتراض العقلاء حولها. وكلهم يجزم بصواب رأيه، وبطلان أقوال مخالفيه فكيف تكون على يقين من صدق بعضها دون بعضها الآخر؟.
(ج) وإذا وقع الشك فى الحسيات والبديهيات فإن ما يتركب منهما من المقدمات، وما ينبنى عليهما من الأدلة النظرية يتطرق إليه الشك وحينئذ "لا وثوق بالعيان، ولا رجحان للبيان، فوجب التوقف، (2).
وهذا هو موقف اللاأدرية القائلين بالتوقف فى وجود كل شيء وعلمه، وهم- بموقفهم القائم على الشك- عاجزون عن التوصل إلى علم، أو إعطاء حكم، أو التوصل إلى يقين. وهو موقف هدام، يلغى المعرفة، ويبطل الحقائق، ويناقض الفطرة السليمة ويهدر قيمة العقل، ودوره فى الفهم والاستنباط والكشف عن المجهول، وتصحيح أخطاء الحواس، بل أخطاء العقل نفسه.
وقد حاول المفكرون- قديما وحديثا- أن يظهروا خطأ هذا الموقف اللاأدرى، وأن يبطلوا أسسه، واجتهدوا فى أن يلزموا أصحابه بأن الإنسان لا يمكن أن يخلو-
تماما- من التسليم بوجود بعض الحقائق، وقد قطعوا هم أنفسهم ببطلان البديهيات والحسيات، ولم يشكوا فى ذلك- وهم- بذاك- يناقضون أنفسهم- وكان مما قيل لإبطال رأيهم "قولكم: إنه لا حقيقة للأشياء: حَقُ هو أم باطل؟ فإن قالوا: هو حق أثبتوا حقيقة ما، وإن قالوا ليس هو حقا أقرُّوا ببطلان قولهم، وكفَوْا خصومهم أمرهم " (3).
وقد خشى المفكرون الإسلاميون من تفشَّى هذا الموقف اللاأدرى الذى انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية. ضمن ما نقل فى حركة الترجمة من ثقافات الأمم الأخرى، ولاسيما الثقافة اليونانية، وقد وقفوا لهذا الاتجاه، وجادلوا أصحابه، بسبب ما يمكن أن يترتب علّيه من آثار ضارة بالعلم والمعرفة والعقيدة الإسلامية، لأن إنكار الحقائق جملة، والتوقف فى قبولها، سوف يكون سبيلا إلى إنكار حقائق الوحى التى جاء بها الأنبياء عليهم السلام. ولذلك جعلوا إثبات الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم من أول الأصول التى يجب الإيمان بها، على عكس ما يقول السوفسطائيون، وقد وصفهم عبد القاهر البغدادى بالكفر، بسبب موقفهم المعاند لموجبات وقد لاحظ (4).وقد لاحظ بعض المخالفين لهم أن رأيهما فيه مكابرة فيه للحس والعقل (5). ومن شأن ذلك أن يجعل الجدال معهم ليس مضمون النتائج، ومن ثم فلا جدوى من مناظرتهم.
وفى ذلك يقول عضد الدين الإيجى "والمناظرة معهم قد منعها المحققون، لأنها لإفادة المجهول بالمعلوم ... والخصم لا يعترف بمعلوم حتى يثبت به مجهول، فالاشتغال به التزام لمذهبهم. بل الطريق معهم أن تُعَدَّ علّيهم أمور، لاُبدَّ لهم من الاعتراف بثبوتها، حتى يظهر عنادهم. مثل: أنَّك هل تميز بين الألم واللذة، أو بين دخول النار والماء، أو بين مذهبك وما ينقضك. فإن أبوا إلا الإصرار أوجِعُوا ضربا، وأُصْلوُ نارا، أو يعترفوا بالألم، وهو من الحسيات. وبالفرق بينه وبين اللّذة، وهو من البديهات " (6).
أ. د/ عبد الحميد مدكور
1 - لسان العرب طبعة دار المعارف مادة (درى).
3 - كشاف اصطلاحات الفنون 3،173 0 173.
3 - الفصل لابن حزم 1/ 8.
4 - الفرق بين الفرق ص 323، 334،354.
5 - الفصل 1/ 8.
6 - المواقف للإيجى ص 21.