16 - القصد

لغة: استقامة الطريق، ومنه قوله تعالى:} وعلى الله قصد السبيل {(النحل 9) أى على الله تبين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة، وسفر قاصد: سهل قريب. والقصد: العدل. والقصد إتيان الشىء، تقول: قصد له وقصد إليه توجه إليه عامداً، وقصد فى النفقة لم يسرف ولم يقتر، وقصد فى الأمر: توسط لم يُفرِط ولم يُفرِّط، وقصد فى مشيه: اعتدل فيه (1)

واصطلاحاً: يطلق ويراد به أولا: توجه النفس إلى الشىء أو انبعاثها نحو ما تراه موافقا، وهو مرادف للنية (2).

فالقصد مرادف للنية، فالقصد يميز العبادة عن العادة كالجلوس للاعتكاف تارة، وللاستراحة تارة أخرى، أو تمييز رتبتها كالصلاة تكون للفرض تارة أو للنفل تارة أخرى، وشرطها إسلام الناوى وتمييزه وعلمه بالمنوى به. والإمساك عن الأكل قد يكون لعدم القدرة على الأكل، وتارة تركا للشهوات لله عز وجل، فيحتاج فى الصيام إلى نية يقصد بها تميز ذلك عن ذلك.

مما تدخل النية فيه والقصد مسائل الأيمان فلغو اليمين لا كفارة فيه، وهو ما يجرى على اللسان من غير قصد بالقلب البتة قال تعالى:} لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة {(المائدة 89) (3).

وأكثر استعمال القصد فى التعبير عن التوجه الإرادى (العملى) والتوجه الذهنى. فأما القصد الدال على التوجه الإرادى: فهو إما مشروع وإما هدف، فإن كان مشروعاً دل على مجرد العزم على الفعل والانبعاث نحوه. وإن كان هدفا دلّ على الغاية التى من أجلها حصل التوجه. فالنجار مثلاً يقصد صنع خزانة جميلة، وهذا مشروع، أو يقصد مع ذلك أن يشتهر ويكتسب ثقة الناس؛ وهذا هدف (4).

ويطلق اصطلاح اتجاه القصد على العمل الذى له جانبان أحدهما جميل، والآخر قبيح، والمسلم لا يرى أن المعاصى تؤثر فيها النية الحسنة فتنقلب طاعة، فالذى يغتاب شخصا لتطييب خاطر شخص آخر هو عاص لله تعالى آثم لا تنفعه نيته وقصده الحسن فى نظره، وكذلك الذى يبنى مسجدا بمال حرام لا يثاب عليه، بل يعاقب على هذا المال الحرام، فلا يكفى أن يكون القصد حسنآ، بل لابد آن يكون الفعل والعمل صالحا موافقا للشرع. (5)

فلابد من تقدير قيمة الفعل والعمل مع ملاحظة ناحيتين: إحداهما المبدأ الذى يوجه النفس إلى الشىء، والأخرى: الشروط الواقعية المحيطة بتنفيذ العمل.

وأما القصد الدال على التوجه الذهنى: فهو القصد الذى أشار إليه الفلاسفة المدرسيون فى القرون الوسطى، والفلاسفة الظواهريون والوجوديون فى العصور الحديثة.

فالفلاسفة المدرسيون يطلقون لفظ القصد على اتجاه الذهن نحو موضوع معين، ويسمّون إدراكه المباشر لهذا الموضوع بالقصد الأول، وتفكيره فى هذا الإدراك بالقصد الثانى.

والفلاسفة الظواهريون والوجوديون يطلقون لفظ القصد على تركيز الشعور فى بعض الظواهر النفسية، كالإدراك الحسى، والتخيل والذاكرة؛ لتفسيرها وتوضيح أسبابها فمعنى القصد عندهم قريب من معناه عند المدرسيين.

والقصدى هو المنسوب إلى القصد، ومنه الأنواع القصدية، وهى الأنواع المدركة بالحس، وهذا الإدراك عند الظواهرية لا يتم بتأثير العقل وحده، بل يتم بتأثير العاطفة والوجدان.

والانفعالية القصدية هى العواطف التى تتوجه إلى الشىء، وتعين على معرفته كالحب والبغضاء، فهما وسيلتان من وسائل المعرفة، كالإدراك والتذكر (6).

ثانيا: القصد أخلاقيا: يطلق ويراد به التوسط والاعتدال فى الأمور كلها.

فقد تضمن الإسلام طائفة من الإرشادات المتصلة بحياة المسلمين الخاصة، قصد بها إلى تنظيم شئونهم البدنية والنفسية، ووضعها على أساس كريم وهى آداب تتعلق بمطعم الإنسان وملبسه ومسكنه وسائر آماله التى يسعى إليها فى هذه الحياة، لا يجنح بها إلى الرهبانية المغرقة، ولا إلى المادية الجشعة، فهى تقوم على التوسط والاعتدال، ومن ثم فتنفيذها سهل قريب.

إن الإسلام يقرن بين مطالب الجسم والنفس فى تعاليمه، ويكف طغيان أحدهما على الأخر، ويرى فى تنسيق حاجاتهما عونا للمرء على أداء رسالته فى هذه الحياة وما بعدها.

فالإسلام يقسم آمال المؤمن ورغائبه على معاشه ومعاده، ويطلب الخير لنفسه فى يومه وغده. قال تعالى:} فمن الناس من يقول ربنا آتنا فى الدنيا وماله فى الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا {(البقرة 200 - 202).

وقد جاء فى النصح لقارون ما يؤكد العمل للحياتين معاً، فإن الدنيا وسيلة للآخرة، وصحة الوسيلة ضمان لنجاح المقصد. قال تعالى} وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك .. ! {(القصص 77).

إن التوسط لب الفضيلة، والتوسط والقصد أن تملك الحياة لتسخرها فى بلوغ المثل العليا، لا أن تملك الحياة فتسخرها لدنياها، ولا أن تحرم من الحياة أصلاً فتقعد ملوما محسوراً. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " السمت الحسن والتؤدة- والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة" (رواه الترمذى). وقال تعالى:} واقصد فى مشيك {(لقمان 19) أى توسط واعتدل فى مشيك بين السرعة والبطء. (7)

ولنأخذ مثالاً من الأمور التى طلب الإسلام فيها القصد، مثال المأكل والمشرب فإن حال الإنسان فى مأكله ومشربه مطلوب منه الاعتدال والقصد والتوسط فلا يُفرط فى تناول الطعام والشراب ولا يُفرِّط، فإن الداعى إلى الطعام والشراب شيئان: حاجة ماسة، وشهوة باعثة، فالحاجة تدعو إلى ما سدَّ الجوع وسكَّن الظمأ، وهذا مندوب إليه عقلاً وشرعاً لما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد، ولذلك ورد الشرع بالنهى عن الوصال بين صوم اليومين، لأنه يضعف الجسد، ويمقت النفس، ويعجز عن العبادة. وأما شهوة الزيادة على قدر الحاجة والإكثار على مقدار الكفاية فهو ممنوع منه، فى العقل والشرع؛ لأنه تناول ما زاد على الكفاية فهو شَرَهٌ مضرّ (8). وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن، صلبه فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه " (رواه ابن ماجه).

ولقد كان القصد فى الأمور والاعتدال فيها من صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبل النبى - صلى الله عليه وسلم - موقف النفر الذى قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أصلى ولا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء، فبين رسول الله لهم أن ذلك يرفضه الإسلام ويأمر بالاعتدال والقصد فى الأشياء. فقال - صلى الله عليه وسلم - " أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى ".

(هيئة التحرير)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015