كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمل حين هجرته إلى المدنية أن يستميل اليهود الذين بالمدينة إلى دينه، لأنهم أهل كتاب قد بشر بنبوته، وهم إن لم يستجيبوا لدينه، ويدخلوا فيه فلا أقل من أن يسالموه، ولا يكونوا مثل كفار مكة الذين اعترضوا دعوته، وحالوا دون نشرها بين الناس.
وكان اليهود من جهتهم يطمعون فى أن يستطيعوا بحيلهم ومكرهم من استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، واحتواء دينه فى دينهم، فأظهروا له المسالمة فى أوائل هجرته، وهم يضمرون فى أنفسهم له ولدينه العداوة والبغضاء.
فلبسوا للمسلمين ثياب النفاق وخالطوهم وتبسطوا معهم، وبدوا لهم كأنهم قد قاربوا من دينهم، ورضوا عن شعائره بينهم (1).
وأعلن الكثير منهم الإسلام نفاقا، ودخلوا المسجد وأدوا الشعائر مع المسلمين، وهم يظنون أنهم يخادعون الله ورسوله وهو خادعهم.
ونتج عن هذه المعايشة السلمية التى كانت بين المسلمين واليهود والطوائف المشركة الأخرى التى كانت فى المدينة غير المسلمين واليهود أن قام رسول صلى الله عليه وسلم بكتابة صحفية تكون بمثابة دستور بين هذه الطوائف يحكمها ويحفظ حق كل طائفة منها، فى أداء شعائرها بحرية تامة، على أن تؤدى كل طائفة واجبات التعايش السلمى مع جيرانها فى البلد الواحد، فلا تساعد الأعداء عليها ولا تحالفهم ولا تجيرهم.
واعترفت هذه الصحيفة بأن المدينة المنورة قد أصبحت دولة صغرى لها كيانها وقوانينها.
وأن النبى صلى الله عليه وسلم رئيس تلك الدولة وهو يجمع فى يديه السلطتين الروحية والسياسية.
وقد أورد ابن هشام نصوص هذه الصحيفة فعدد أسماء القبائل التى التزمت بها، ومنه نقتبس بعض السطور:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبى صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف (وعدد الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم قبائل المؤمنين على هذا النمط، ثم قال: وإنه لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ظلم أو أثم، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة (2).
ثم اتجهت الصحيفة للحديث عن اليهود فقالت: وإن اليهود يتفقون ما داموا محاريين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وإن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف (وعد على هذا النمط قبائل اليهود) ثم استمرت الصحيفة تقول: وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثا أواشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل والى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن البر دون الإثم، وان الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبره " وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وخلاصة هذه الصحيفة:
1 - أن للجماعة شخصية دينية وسياسية ومن حقها أن تعاقب المفسد وتؤمن المطيع.
2 - أن الحرية الدينية مكفولة للجميع.
3 - على سكان المدينة من مسلمين وغير مسلمين أن يتعاونوا ماديا وأدبيا وعسكريا، وعليهم أن يردوا متساندين أى اعتداء قد يوجه لمدينتهم.
4 - الرسول صلوات الله وسلامه عليه هو الرئيس الأعلى لسكان المدينة، وتعرض عليه القضايا الكبرى وحالات الخلاف بين الأفراد ليفصل فيها.
وعلى الرغم من موقف المسلمين السمح كان اليهود غيرمخلصين لما جاء فى هذه الصحيفة، ويبدو أنهم قبلوها ريثما يدبرون أمرهم كما هو معروف من دراسة مواقفهم من المسلمين بعد ذلك (4).
أ. د/أحمد شلبى