17 - السنة

السنة النبوية: هى أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. والمراد بحجيتها: قبولها، واعتقاد أنها وحى من الله تعالى، وأنها جزء من الرسالة التى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغها.

والناس أمام حجية السنة وعدم حجيتها أنواع:

الأول: مسلمون مذعنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملتزمون بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} النساء:65. وبقوله تعالى {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر} الأحزاب:21. وبقوله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر:7. وبقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} النساء:80. والطاعة عند هؤلاء واجبة فيما أمر به وجوبا، وواجبة الابتعاد فيما نهى عنه تحريما، ومستحبة فيما أمر به استحبابا، ومكروهة فيما نهى عنه تنزيها، ومباحة الفعل والترك فيما أذن بطرفيه، الفعل والترك.

الثانى: هناك من الناس من يقف أمام حجية السنة على طرف النقيض من النوع الأول، يردون السنة كلها، وينكرونها جملة وتفصيلا، وينكرون أنها وحى من عند الله، وأنها من جملة الرسالة، وقريب من هؤلاء من يعترف بأنها وحى لكنه يتشكك فى ثبوتها كلها، وصدورها عن محمد صلى الله عليه وسلم لعدم قدرته على الفصل بين صحيحها وضعيفها، فيردها ككل، ويدعى إمكان الاكتفاء بالقرآن الكريم.

وهذان النوعان فى حاجة إلى دراسة ووعى علمى ودينى، أو الرجوع إلى أهل الذكر والاختصاص، وشأنهم فى ذلك شأن المريض الذى لا يميز بين الأدوية، ما ينفع منها، وما يضر، فيظن أن الحكمة فى ترك الدواء، كل الدواء.

ومشكلة العصر فى تشكيك بعض المسلمين في السنة، بل بعض علماء المسلمين من بنى جلدتنا، ويتكلمون لغتنا، بل ويحملون مؤهلاتنا وشهاداتنا، لكنهم بهدف أو بآخر يتنصلون من بعضها، وفى الرد عليهم رد على غيرهم من الطاعنين أو المغرضين أو الشاكين، وهم يقسمون السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، فيقول أحدهم: ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم ودون فى كتب الحديث من أقواله وأفعاله وتقريراته على أقسام:

أحدها: ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب، والنوم، والمساواة فى البيع والشراء.

ثانيها: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية والاجتماعية، كالذى ورد فى شئون الزراعة، والطب، وطول اللباس وقصره.

ثالثها: ما سبيله التدبير الإنسانى أخذا من الظروف الخاصة، كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية، وكل ما نقل من هذه الأنواع الثلاثة ليس شرعا، يتعلق طلب الفعل والترك، وانما هو من الشئون البشرية التى ليس مسلك الرسول فيها تشريعا ولا مصدر تشريع (1).

ثم يقول: ومن هنا نجد أن كثيرا مما نقل عنه صور بأنه شرع أو دين أو سنة أو مندوب، وهو لم يكن فى الحقيقة صادرا على وجه التشريع أصلا (2).

فهذا القول ينفى التشريع بأحكامه الأريعة (الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة) عن جميع أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم الواردة فى هذه الأمور الثلأثة، ولو تتبعنا ما ورد فى الأكل والشرب كمثال لوجدنا منه ما هو واجبه، وما هو محرم، وما هو مندوب، وما هو مكروه

فأحاديث: صيد الكلب، وحل السمك، والجراد الميت، وتحريم كل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطير، تحرم أشياء، وتبيح أشياء فكيف لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها مشرعا؟

والله تعالى يقول عنه: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} الأعراف:157.

ويقول الآخر: فما دام الرسول كان يجتهد، وما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات، أفلا يجوز لمن يأتى بعده أن يدلى فى الموضوع باجتهاده أيضا؟ هادفا إلى تحقيق المصلحة، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده (3).

وهذه الشبهات من أخطر ما يوجه إلى السنة من تحطيم، فشبهتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر من الناس، وهذا حق، لكن بشريته لم تلغ رسالته فى وقت من الأوقات فهو بشر رسول في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، إن جعله رسولا فى قول دون قول، وفي فعل دون فعل؟

يلغى الأمر بالاقتداء به، وينفى مراقبة الله له فى وقت من الأوقات، وفى قول من الأقوأل، وفى فعل من الأفعال.

كيف تفلت بعض أفعال محمد صلى الله عليه وسلم من مراقبة الله، وكل مؤمن وغير مؤمن مراقب محاسب على ما يفعل، وهو يزيد عن البشر بالوحى والرؤية فى المنام وفي الإلهام، وبجبريل -عليه السلام- ومأمور بالاقتداء به فى أفعاله والعمل بأقواله.

لقد حوسب وعوتب على أنه امتنع عن طعام يحبه، إرضاء لأزواجه، فنزل فيه قرآن يتلى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحلا لله لك تبتغى مرضات أزواجك} التحريم:1.

ولقد حوسب وعوتب على عوارض انفعالاته، وتجهم وجهه فى ملاقاة أعمى لا يراه، ولا يتاثر بعبوسه، فنزل فيه قرآن يتلى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} عبس:1 - 2.

بل لقد عوتب وحوسب على خلجات قلبه، ودواخل نفسه، فنزل فيه قرآن يتلى: {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} الأحزاب:37.

أليست كل هذه الأفعال قد صدرت بصفته البشرية؟ لكنها خضعت لرقابة الوحى، وتوجيه الوحى، ولكل فعل من أفعال المكلفين حكم عند الله، لأنه إما أن يكون مرضيا عنه من الله تعالى، وإما أن يكون غير مرضى عنه، ويستحيل أن يفعل محمد صلى الله عليه وسلم فعلا لا يرضى عنه الله، وينزل جبريل المرة بعد المرة فلا يعدله، ولا يوجهه، فنزول جبريل بعد صدور حكم له صلى الله عليه وسلم أو فعل، وعدم اعتراضه عليه، إقرار وتقرير من الله تعالى، وهو شرع لا يسند إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه يسند إلى الله تعالى.

وكان الصحابة يؤمنون بذلك، ويقتدون بأفعاله على أنها شرع الله حتى فيما هو من الأمور البشرية، لبس نعله فى الصلاة، فلبسوا نعالهم، فلما خلع نعله لسبب لا يعلمونه، خلعوا نعالهم، فلما قضى صلاته، قال لهم: (ما حملكم على إلقاء نعالكم، قالوا رأيناك ألقيت نعلك، فألقينا نعالنا، قال: إن جبريل أتانى فأخبرنى أن فيها قذرا أوأذى) (4) ونزل ضيفا على أبى أيوب الأنصارى، فتكلفوا له طعاما، فيها ثوم، فكره أكله فتوقف الصحابة عن أكله، فقال لهم: (كلوا، فإنى لست كأحدكم إنى أخاف أن أوذى صاحبى) (5).

وقدم إليه الضب في طعامه فكره أكله، فقيل له: أحرام هو؟ قال: (لا ولكن نفسى تعافه، فأكلوه بعد أن توقفوا) (6).

إن الذين ينفون التشريع عن فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى الأكل والشرب يسوون بين أكله وشربه صلى الله عليه وسلم وبين أكل وشرب أبى جهل وأبى لهب، فالكل عندهم صادر عن الجبلة والعادة والطبيعة والبشرية وما هكذا يفهم الإسلام والله المستعان.

أ. د/موسى شاهين لاشين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015