تكلم الأصوليون طويلا فى معنى الاجتهاد والتقليد وفى البحوث المتصلة بكل منها، ولا يعنينا من كل هذا هنا إلا أن نقول: أن القول فى دين الله وشرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل من غير دليل لا يكون اجتهادا فقهيا ولا تقليدا، وليس إلا القول بالهوى والتشهى وهو الرأى المذموم الذى صان الله منه أئمتنا وأتباعهم، وما أسرف به بعضهم نحو الآخرين لا يحكى الواقع، وما دفع إلى الوقوع فيه إلا الحمية والتسرع.
وأن الأخذ والعمل بقول من ليس قوله من الحجج والأدلة الشرعية تقليد إذا كان ذلك بلا حجة. والأخذ بلا حجة يشمل العمل بقوله، من غير أن يعرف الآخذ من أين قال ذلك، والأخذ بقوله مع الوقوف على حجته، ولكن الآخذ لا يستطيع أن يستقل باستفادة الحكم من هذه الحجة، أما إن كان أهلا لأن يستقل بهذه الاستفادة لم يكن مقلدا، بل يكون موافقا له فى رأيه. فمتبعوا الأئمة من العامة ومن المتفقهة ومن الفقهاء على اختلاف مراتبهم فى التحصيل والقدرة على النظر فى أدلة من اتبعوا، لكنهم لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد مقلدون لهم.
وأن اتباع كل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حياته واتباع ما علم من الدين بالضرورة، وهو الثابت بنص قطعى أو بإجماع بعد وفاته عليه- الصلاة والسلام - ليس اجتهادا ولا تقليدا.
أما الاجتهاد فى الشريعة فهو استنفاد الطاقة للوصول إلى الحكم من مصدره الشرعى. ومما أسلفنا فى بيان معنى الفقه عند الأصوليين يعرف من هو هل الاجتهاد.
والاجتهاد يكون على ضربين: اجتهاد لمعرفة حكم الله، واجتهاد لمعرفة محل العمل بحكم الله المعروف.
والضرب الأول قد يكون راجعا إلى حجية الدليل ذاته، أو إلى ثبوته وطريق الوصول إليه، أو إلى قوته وترجحه على ما يعارضه، أو إلى بقاء الحكم أو نسخه.
وقد يكون راجعا إلى دلالة الدليل وفهمه وقد يكون راجعا إلى استنباط حكم ما لم ينطق الشارع بحكمه من معنى ما نطق الشارع بحكمه، وهذا الضرب بأنواعه هو الاجتهاد الفقهى الذى دار الجدل حول أن الزمان لا يخلو من وجوده، أو أنه مما يجوز انقطاعه، لعدم وجود أهله، - وحول انقطاعه فعلا ووقت هذا الانقطاع.
أما الضرب الآخر فقد يكون راجعا إلى ما يعبر عنه اليوم بالتكييف، ويكون بالنظر فى الحادثة وتعيين النوع الذى هى منه ليطبق عليها حكمه، فالاجتهاد ليس للوصول إلى معرفة حكم لم يكن معروفا، ولكن لتعيين حكم من الأحكام المعروفة ليعمل به فى حادثة معينة، وهذا ما يسميه الشاطبى تحقيق المناط. ويكون هذا الاجتهاد من المفتى والقاضى، وقد يكون هذا الاجتهاد راجعا إلى إثبات الحادثة المعينة، ليطبق عليها حكمها المعروف، وهو اجتهاد لا يعنى إلا القاضى وحده. وهذا الضرب من الاجتهاد بنوعيه قد وجد. وهو موجود، وهو ماض إلى يوم الدين.
والفقه الإسلامى بالمعنى الشامل وبالنظر إلى اجتهاد الضرب الأول وإلى التقليد. قد مر بأطوار ثلاثة متعاقبة، وهى طور التشريع، وطور الاجتهاد، وطور التقليد.
أ- طور التشريع:
وطور التشريع الإسلامى هو عصر البعثة المحمدية، عصر الوحى الذى بدأ بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانقضى بلحاقه بالرفيق الأعلى، وكانت مدته ثلاثا وعشرين سنة، وكانت أحوال المسلمين الأولين ليست أحوال تشريع أحكام عملية فى أول الأمر، ولم ينزل منها إلا النزر اليسير.
ولما كانت الهجرة إلى المدينة ووجد الإسلام أنصاره وداره، وقامت الدولة الإسلامية بدأ نزول الأحكام العملية، وبدأ التشريع الإسلامى بمعناه الكامل.
وقد سايرت نشأته نشأة الدولة ينمو بنموها، فهو تشريع ليس شأنه كشأن ما يوضع من التشريعات لدولة قد اكتمل تكوينها واستقر بناؤها. فكان نزوله منجما، وكان أكثر أحكامه على التدرج، وكان فيها الناسخ والمنسوخ. وقد روعى فى ذلك عاملان هامان:
أحدهما: أن حملة هذا التشريع الأولين كانوا أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وجل اعتمادها على ما تعى وتحفظ، فمن حقها وحين التشريع نفسه أن يكون منجما وفى مناسبات معينة وحوادث معروفة حتى يعين ذلك على حفظه وتثبيته فى النفوس.
وثانيهما: أن ما يصلح للدولة فى أول تكوينها وحداثة عهدها وبدء قوتها قد لا يصلح البعض منه لها بعد أن تبلغ أشدها، ولا لمن يأتى بعد أهلها الأولين ممن يدخلون تحت سلطان هذه الأحكام من الأمم الأخرى، فكان لابد من التغيير والتبديل، حتى إذا استقر أمر الدولة وأرسيت قواعدها اكتمل تشريعها وأحكمت أحكامه، وكذلك كان.
فما لحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى حتى أتم الله دينه وأبرم تشريعه، وصارت الأحكام الشرعية كلها محكمة.
وكان الفقه فى هذا الطور فقه الوحى لا مصدر له سوى الكتاب والسنة النبوية. وقد اختلف العلماء فيما بعد فى اجتهاده - صلى الله عليه وسلم- وفى اجتهاد أصحابه فى حياته وهو اختلاف فيما نرى ليس ذا شأن يذكر، إذ الوحى موجود فلو وقع اجتهاد منه لوجب أن يقره الوحى أو ينكره، ويكون إذ ذاك هو مصدره وهو ما يؤكده تتبع الحوادث، وليس فى وسع أحد من القائلين بهذا الاجتهاد أن يرشدنا إلى حكم واحد كان من طريق هذا الاجتهاد ولم يقره الوحى. ولو أن مثل هذا الحكم كان موجودا ما خالف فى هذا الاجتهاد أئمة أعلام.
وما نزل به الوحى من الأحكام الفقهية نوعان عظيمان، أما أحدهما: فهو ما من شأنه ألا يتأثر كثيرا باختلاف البيئات والأقاليم والأعراف والعادات، وتجدد الأحداث وتقلب الظروف، وهذا قد قررت أصول مسائله وفصلت أحكامه تفصيلا وافيا، ومع هذا كان تفصيلا يفسح الطريق للاجتهاد إذا دعا داعيه.
وأما الآخر: فهو ما من شأنه أن يتأثر تأثرا ملحوظا بالعوامل التى أشرت إليها، وهذا كانت له القواعد الكلية المرنة التى تصلح لكل زمان ومكان وبيئة، وتتسع لحاجات الناس، وتفتح للاجتهاد فى أحداثها بابا واسعا.
وهذه الأحكام بنوعيها إنما شرعها الله سبحانه لمصالح العباد تفضلا منه، وتقوم على تحقيق سعادتهم فى الدارين، وتدور مقاصدها على الضروريات التى لا غنى عنها بحال، لإقامة مصالح الدين والدنيا، حتى إذا فقدت اضطربت هذه المصالح وانتشر الفساد وساد الاضطراب، وعلى الحاجيات التى تكفل التوسعة على الناس ورفع المشقة عنهم، ويؤدى فقدانها إلى الاضطراب، غير أنه لا يبلغ ما ينشأ عن فقدان الضروريات، وعلى التحسينات التى تكفل الأخذ بمحاسن العادات وتجنب ما تنبو عنه الفطرة.
هذا هو واقع تلك الأحكام، وواقع ما تدور عليه مقاصدها، وهذا ما فهمه أهلها وسار ركبهم فى طريقه فأفلح وأنجح، اللهم إلا شرذمة قليلة أنكرت دلالة المعانى، وتنكرت لتعليل الأحكام وللقياس، فيسرت على (يوسف شخت) المستشرق اليهودى وعلى أمثاله من قبله، أن يفتروا الكذب على التشريع الإسلامى، وأن يقولوا أن شرع الله لا يمكن إدراك أسراره بالعقل، فهو تعبدى أى أن الإنسان يجب أن يقبله مع تناقضه وأحكامه التى لا يدركها العقل من غير نقد وأن يعد ذلك حكمة لا يمكن إدراك كنهها إلى آخر ما جاء به من المفتريات التى لا يتردد قارئها فى أنه يصف بها دينا آخر وأسرارا أخرى. ولقد افترى هذا وهو عالم بحقيقة كل شىء وقد تقلب بيننا فى القاهرة طويلا وحاضر وناقش وفهم كل شىء على حقيقته. ولا ريب أن التشريع الإسلامى استبقى المحمود من عادات العرب وأقره، ولا فى أنه قضى قضاء مبرما على أكثر ما هو ممقوت منها، وسلك بباقيها سنة التدرج حتى ذهب ريحه. وتلك هى الطريقة المثلى، وسنة كل تشريع حكيم يراعى الصالح فمما يقرره من الأحكام.
كما أنه لا ريب فى أن التشريع الإسلامى امتداد لما قبله من الشرائع السماوية الحقة، التى تكون دينا واحدا ساير الإنسانية فى نموها وتطورها حتى إذا بلغت أشدها كانت الخاتمة الملائمة هى ما استقر عليه التشريع الإسلامى وتم به دين الله، والكتاب الكريم ينطق بهذا فى مواطن كثيرة، فلا غضاضة على هذا التشريع إن هو أقر عادات محمودة صالحة للبقاء أو كانت فيه آثار الشرائع الإلهية السابقة، فذلك من كماله ومن أفضل محاسنه.
ومن راض نفسه على البحث العميق سليم الطوية، وأخذ نفسه بقولة الحق وبالإنصاف، وراعى ما كان عليه القسم الأعظم الشمالى من جزيرة العرب حين ظهور الإسلام، وما كان عليه من العزلة الاجتماعية إلا فى النزر اليسير من الرحلات التجارية الموسمية، ومن الإعراض عن الشرائع الوضعية والتمسك بنظامه القبلى، وراعى أن التشريع الرومانى الذى جمع جوستنيان أمشاجة كان مقصورا على طائفة معينة ولم يؤلف فيه إلا كتاب واحد تعليمى، وأن هذا التشريع قد اختفى بانتهاء عصر جوستنيان قبل ظهور الإسلام بعشرات السنين، وراعى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه ما كان يدرى ما الكتاب ولا الإيمان، وراعى ما كان عليه خصوم الإسلام من المشركين واليهود من الدأب على أن يلصقوا كل نقيصة بهذا الدين وأهله، إذا راعى كل هذا وأن الموازنة بين التشريع الإسلامى والتشريع الرومانى، أظهرت ما بينهما من التباين فى المبادئ وفى القواعد وفى الأصول وفى الفروع، أيقن أن القول بأن التشريع الإسلامى قد تأثر بالتشريع الرومانى، ليس إلا فرية منكرة ونفثة مصدور، وأباطيل ينشرها أنصار الاستعمار التشريعى.
ب- طور الاجتهاد:
والذى نعنيه بطور الاجتهاد: هو العصر الذى ظهر فيه الاجتهاد ظهورا لم ينازع فيه أحد كما أنه لم يختف فى وقت منه اختفاء متفقا عليه، وهو طور يبتدىء بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ويصل إلى حدود الثلاثمائة من الهجرة. ويقع فى عهد الخلفاء الراشدين، وفى عهد الدولة الأموية، وفى الشطر الأول من الدولة العباسية، وصدر الدولة الأموية بالأندلس، وكان فيه اجتهاد فقهاء الصحابة - رضوان الله عليهم-، واجتهاد الفقهاء التابعين كبارهم وصغارهم، واجتهاد فقهاء الأمصار الذين اشتهرت مذاهبهم وكان لهم أصحابهم وأتباعهم، وبقى من هذه المذاهب ما بقى، ومنها ما هجر وانقرض أتباعه ومقلدوه.
ولما لحق عليه - الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى انقطع الوحى، ولكن الواقعات متجددة، والنوازل تنزل وليس لها بعينها حكم فيما نزل به الوحى، فانفتحت للاجتهاد أبوابه الواسعة، وكان لتجدد الواقعات وحوادث النوازل فى هذا الطور عوامله العادية التى تعرفها الحياة الهادئة. وعوامل أخرى غير عادية. فكانت حروب الكذابين المتنبئين، وحروب الردة، وكانت الفتن والحروب الداخلية، فكان مقتل عثمان، وكانت واقعة الجمل، وكانت حروب علىّ ومعاوية التى ما انتهت حتى خلفت وراءها أحزابا سياسية كبرى، وكثر الكلام فى الإمامة والسياسة، وكان فى كل حزب كبير فرقه وشيعة، كما بدأ الكلام فى القضاء والقدر والأرجاء وغير ذلك مما يتصل بالعقيدة. وتعددت الأحزاب والفرق من هذه الوجهة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، توالت الفتوح الإسلامية، واتسعت الرقعة الإسلامية فى أسيا وفى أفريقيا، وفى أوربا، وبلفت الممالك الإسلامية قمة الرخاء والازدهار، وذروة الحضارة والمجد.
وكانت لكل هذه الأحداث العظيمة السارة والمحزنة آثارها البالغة فى الفقه ومصادره، أما المصادر فقد وجد منها أولا مصدران لم ينازع فيهما أحد، هما الإجماع والقياس، ثم طرأ النزاع فيهما فى الطور نفسه.
وأما الأحكام الفقهية، فكان لا مناص لها من مواجهة النوازل والأحداث فى رقعة مترامية الأطراف، ودولة ناشئة تحتاج إلى تنظيم مواردها المالية وترتيب كل أمورها، رقعة تضم أقطارا وأجناسا مختلفة، لها أعرافها وعاداتها وتقاليدها المتباينة، وفى بلادها الكثير مما لا تعرفه الجزيرة العربية عن الأنهار والحيوان والزروع والمعدن وغيرها مما هو بباطن الأرض أو بظاهرها، إلى غير ذلك مما تغير به وجه الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
والفقه عليه أن يواجه كل هذا، فهو السيد وحده، وهو صاحب السلطان المطلق، فاتسع نطاقه اتساعا عظيما، وكثرت مسائله وأبوابه وصارت أضعافا مضاعفه. والمجتهدون الأولون هم الفقهاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كغيرهم من الناس، فمنهم العامة الذين لم يعرفوا بفقه ولا رواية، وإذا نزلت بأحدهم نازلة سأل فيها أهل الذكر.
وجاعت الرواية عن نيف وثلاثمائة وألف صاحب. وجاءت الفتيا عن نيف وثلاثين ومائة صاحب، وكان منهم المكثرون الذين يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم. وكان منهم المتوسطون الذين يمكن أن يجمع من فتيا كل منهم جزء صغير، ومنهم المقلون. وليس كل من أفتى كان يسمى فقيها، وما كان يسمى فقيها منهم، كما ذكر ذلك صدر الشريعة، إلا من كانت له ملكة الاستنباط، وقد عرف بذلك وبالعلم واشتهر به أم المؤمنين عائشة، وعمر، وعلى، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وأبو بكر، وأبى، ومعاذ، وابن عوف، وأبو موسى الأشعرى، وأبو سعيد الخدرى، ومعاوية، ومن فقهاء الصحابة من كان دون هؤلاء.
وكان الفقهاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجع بعضهم إلى بعض ليعرف ما عنده من سنة وفقه، فكان عمر وابن مسعود وزيد يرجع بعضهم إلى بعض. وكذلك كان على، وأبى، وأبو موسى. وكانت سنة الخليفتين أبى بكر وعمر أنه إذا نزلت النازلة لا يظهر لهما فيها شىء من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعا لذلك العالمين، فإن وجدت عندهم سنة أخذ بها، وإن لم توجد اجتهدوا، فإذا اجتهدوا واتفقوا كان ذلك إجماعا يجب على الكافة أن يأخذوا به، وإن اجتهدوا ولم يتفقوا وأمر ولى الأمر باتباع رأى وجبت طاعته، وإن لم يكن إجماع ولا أمر عمل كل بما أداه إليه اجتهاده. وكانت سنة الخليفتين فى هذا هى السنة التى يتبعها أمير كل مصر من الأمصار إن لم يرفع الأمر إلى الخليفة.
وكان فقهاء الصحابة حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. ولما لحق بالرفيق الأعلى بدأ تفرقهم فى الجهاد، ثم ازداد تفرقهم فى عهد عمر حينما مصر الأمصار، وأسكنها المسلمين، وأرسل إليهم الأمراء والولاة والمعلمين والعمال. وما كان يؤمر أمير على جيش أو غيره، وما كان يولى وال أو عامل، إلا أن يكون فقيها عالما، فانتشروا فى الآفاق وملأوا الأمصار فكانوا عصبة الإيمان، وأئمة الهدى، وأعلم الأمة بالأحكام وأدلتها وأفقه الناس فى دين الله، وعليهم دارت الفتيا، وعنهم انتشر العلم والفقه. وكانوا إذ ذاك بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام ومصر. وعن هذه الأمصار انتشر الفقه فى الآفاق.
وفقهاء التابعين قد ملئوا الأمصار، وقد شارك كبارهم فقهاء الصحابة فى الاجتهاد والفتيا. وكانت المصادر الفقهية فى عصر التابعين هى المصادر فى عهد فقهاء الصحابة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وإذا نزلت الحادثة ولم يجد الفقيه التابعى فيها كتابا ولا سنة ولا إجماعا من الصحابة، ووجد أقوالا لفقهاء الصحابة، نظر فيها وتخير منها واتبع عن نظر ودليل، لا عن تقليد، ومن هذا الاتباع أطلق عليهم اسم التابعين. وإذا لم يجد التابعى شيئا من ذلك اجتهد رأيه. وإذا اجتهد التابعون وأجمعوا، كان إجماعهم حجة عند الكثيرين. وذهب داود وأصحابه إلى أن إجماعهم لا يكون حجة ولا مصدرا فقهيا.
ومن الواضح أن من لا يحتج بإجماع الصحابة لا يحتج بإجماع التابعين. على أن الخلاف فى إجماع التابعين نظرى محض ما دمنا لا نعرف حكما بعينه ثبت بإجماع التابعين.
وقد اجتهد فقهاء التابعين وكانت لهم أقوال فى مختلف أبواب الفقه اتسع بها نطاقه وصار أكثر اتساعا منه فى عهد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد حفظت أقوالهم ونقلت عنهم ثم دونت فيما بعد، ومما يلفت النظر أنه ظهر فى هذا العهد مناقشات واضحة فى باب كبير من أبواب الفقه هو باب الوقف، فالقاضى شريح يقول: إنه باطل لا يجوز، لأنه حبس عن فرائض الله، وقد جاء محمد ببيع الحبيس، ويقول قائل آخر مثله، لأن الصدقة لا تجوز لمن لم يوجد ولا يدرى أيكون أو لا.
وفقهاء التابعين قد ملئوا الآفاق من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل وديار ربيعة وديار مضر إلى أقصى الشام إلى مصر إلى إفريقية إلى أقصى الأندلس إلى أقصى بلاد البربر إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب إلى العراق إلى الأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى أصفهان وطبرستان وجرجان إلى الجبال. وهؤلاء لم يحصهم أحد، ولكن كان من بينهم المشهورون فى كل إقليم، وهم كثيرون، يضيق مقامنا هذا عن عدهم.
وعهد الصحابة وكبار التابعين من خير القرون، وهو عهد لم يبتعد عن عصر الرسالة، والإيمان فيه لا يزال غضا، والعقائد لا تزال راسخة ولأحكام الدين المكان الأول فى نفوس المسلمين عامة، لا فرق فى ذلك بين الحاكمين والمحكومين، فهى أحكام دين، وقانون دولة إسلامية هى معقد العز وجماع الفخر لكل من ينتمى إليها، فليس متصورا أن تلقى تلك الأحكام إهمالا عاما ولا انتهاكا فى علانية.
إن لكل دين وكل قانون من يعصاه فى كل وقت، أما أن تهمل أحكامه إهمالا عاما أو تنتهك حرماته انتهاكا كليا ودولته قائمة فى قوتها ولا تقوم إلا على أحكامه، فهذا ما لا يقبله أى منطق.
ولكن ما للمستشرقين ولكل هذا إذا تحدثوا عن الإسلام والمسلمين، وبخاصة إذا كان الهدف من حديثهم هو قطع الصلة بين عصور الفقه الإسلامى ليصلوا إلى أغراضهم الخبيثة وإلى هدم هذا الفقه من أساسه، فزعموا أن الحديث إنما دون بعد الفقه ليخدمه، كما زعموا أن القرن الأول، قرن الصحابة وكبار التابعين، كانت تسوده ظاهرة لدى الحكام والعلماء والشعب، وهى عدم الاهتمام بأحكام الدين، وعدم المعرفة بشئونه، والتأرجح وعدم القطع والجزم فيها، حتى فى العبادات، ولم يكن التابعون على وضوح بالنسبة للأمور الفقهية.
هذا مجمل ما قاله اليهودى المستشرق جولد تسيهر، وقاله أمثاله من معاصريه، وقاله أشياعه من بعده، وكل مفترياته وضيعة، يكذبها الواقع. إنهم لم يستندوا إلا إلى بعض جمل التقطوها من مواضعها وفصلوها عما قبلها وما بعدها، وإلى أكاذيب موضوعة، وإلى تأولات صدرت من خصم سياسى للطعن فى خصمه، وإلى أمور تدل على عكس ما يقولون. فهم يقولون: أن هناك أقوالا متناقضة فى جميع أبواب الفقه ووجود هذه الأقوال أفظع ما يكون فى الدلالة على العناية والاهتمام وبذل الجهد فى استنباط الأحكام. والاختلاف فى الأمور الاجتهادية التى ليس فيها نص قاطع، لا يدل على التأرجح وعدم القطع، فكل قد اعتقد واطمأن إلى ما أداه إلية اجتهاده، واختلاف الأفهام فى موضع النظر والاجتهاد من الأمور الفطرية عند الناس جميعا، وما كان فقهاء المسلمين بدعا فى هذا، وهو واقع عند جميع الناس منذ كانت الخليقة حتى اليوم، ولم يذهب أحد إلى أنة آية على التأرجح وعدم القطع والجزم.
وزعموا- كذبا- أن فى سنن أبى داود والنسائى ما يدل على أنه كان يوجد فى بلاد الشام من ولا يعرف عدد الصلوات المفروضة فراحوا يسألون الصحابة عن ذلك على أنه لو صح ذلك لكان دليل الاهتمام والعناية، وافتراض أن يوجد واحد أو أكثر على هذه الشاكلة لسبب من الأسباب لا يقوم دليلا على الاختراع الذى اخترعوه.
وأشد من هذا تجنيا، زعمهم أن الأمويين غيروا أوقات الصلاة برأيهم، يقولون ذلك ليوهموا أن هناك عبثا بعماد الدين وأقوى أركانه، مع أن المسالة لا تعدو أن مروان ابن الحكم قدم خطبة العيد على الصلاة، وحديث أبى سعيد الخدرى فى هذا معروف، فما أهون هذا وأبعده عما يوهمون ويضللون.
وعضوا بالنواجذ على ما أخترعه بعض أتباع مالك تأييدا للأخذ بما عليه عمل أهل المدينة، وهو أن ابن عباس خطب فى آخر رمضان على منبر البصرة فقال: " أخرجوا صدقة صومكم ".
فكان الناس لا يعلمون، فقال: " من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون من زكاة الفطر الواجبة عليهم شيئا".
وأخذ المستشرقون من هذا أن الشعب كان فى الواقع قليل الفهم والمعرفة للفقه، ولم يكن يعرف هذه الشئون إلا أهل المدينة وحدهم. وهذه الأقصوصة الكاذبة والمكذوبة عرض لها ابن حزم وأفاض فى تكذيبها ما شاء الله أن يفيض فى قوة ومتانة. ومما أورده فى أدلة تكذيبها أنها مروية عن الحسن البصر ى، والحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته على البصرة شيئا، لأنه لم يكن بالبصرة، وكان بالمدينة فلم يشهد له صلاة ولا خطبة ولم يحضر له مجلسا بالبصرة. وقال أيضا: أن بناء البصرة كان سنة أربع عشرة من الهجرة، ووليها ولاة من المدينة ونزلها من الصحابة المدنيين أزيد من ثلاثمائة، ووليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين. أفلم يكن فى هؤلاء كلهم من يخبرهم بزكاة الفطر؟ بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به، أو جهلوه مدة تزيد على اثنين وعشرين عاما، مدة خلافة عمر بن الخطاب وعثمان حتى وليها ابن عباس بعد يوم الجمل. أترى عمر وعثمان قد ضيعا أعلام رعيتهما هذه الفريضة؟ أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان ولا دخلوا المدينة فغابت عنهم زكاة الفطر إلى ما بعد يوم الجمل؟ إن هذا لهو الضلال المبين والكذب المفترى، ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
ولكن ما ليهود المستشرقين وأشياعهم ولكل هذا؟ وما لهم وللبحث عن الحقائق التى تقف فى سبيل مطامعهم؟ إنهم لا همّ لهم إلا تلقف الأكاذيب التافهة، واتخاذها قواعد عامة يرمون بها المسلمين، ويمزقون بها الصلة بين عصور الفقه، ويتخذونها وسيلة إلى القول بأن ما كان من الفقه بعد ذلك إنما هو فقه مخترع وضعت له أحاديث تؤيده، ويسهل على الآخرين القول بأن الفقه الإسلامى مأخوذ عن الفقه الرومانى، تلك الأكذوبة التى تسممت بها عقول بعض من أبنائنا زمنا طويلا إلى أن كشف الله الغشاوة عن بصائرهم وعرفوا ما بين الفقهين من تباين فى الأصول والفروع وما كان عليه الفقه الرومانى إذ ذاك من الاختفاء التام.
وأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وما اجتمع من إجماع الصحابة واجتهادهم وما كان من اجتهاد التابعين، كل ذلك قد نقل إلى من بعدهم وتدارسوه فى حلقات دروسهم، يطرحون فيها الكتاب والسنة، ويطرحون فيها الآثار.. آثار الصحابة والتابعين، ويديرون المسائل فيما بينهم ويعقب الأستاذ برأيه، وكان لكل أستاذ تلاميذه وأصحابه، وكانت هناك مناظرات على نطاق أوسع مما كان فى عهد الصحابة والتابعين، وكانت حجج وردود ينتصر فيها كل لطريقته وما ذهب إليه، وقد جر ذلك إلى وجود الفقه الفرضى، فقه أرأيت كذا وكذا، وقد قام بجانب ذلك أبواب للتدريب الفقهى وتوسيع الأفق فيه. كمسائل الحيل، والمسائل التى تشتبه فيها الأحكام وتدعو إلى الدقة التامة لمعرفة الفروق التى بينها، ومسائل المعاياة وما يسأل عنه من المحال الذى لا يكون. كما قضى تطور الحياة بوجود ما لم يكن موجودا من مسائل الشروط والوثائق، ومسائل المحاضر والسجلات، والتوسع فى تفريع الأحكام ببعض الأبواب كالوقف وتصرفات المأذون وأشباهها. فازداد اتساع نطاق الفقه فى النصف الثانى من هذا الطور اتساعا عظيما حتى قالوا فيما بعد إن من العلوم ما نضج حتى احترق وهو علم الفقه.
والكلام فى أصول الدين كان من قبل على أضيق نطاق، ثم أخذ يزداد حتى وجد ما يسمى علم الكلام، وقامت بشأنه مجادلات ومناظرات كان مركزها البصرة والكوفة وكان له أهله وحلقاتة، كما كانت للفقه حلقاته.
ثم كان هناك أيضا القصص والقصاصون وكانوا أولا من خيرة العلماء كالحسن البصرى ثم إنحدر أمر القصص وتولاه المرتزقة وواضعوا الحديث وكانت له حلقات أيضا، وهنا ظهر التخصص واضحا وكانت لكل ناحية رجالها، واختص المتفرغون للأحكام الفقهية باسم الفقهاء.
وفى عهد فقهاء الأمصار كان التدوين، فدونت المذاهب الجماعية، إذ دون مذهب كل أستاذ مع ما ذهب إليه أصحابه المجتهدون مثله ونسب الجميع إلى الأستاذ لأنه رأس هذه الطائفة.
النزعات الفقهية:
اختلف المجتهدون فى نزعا تهم الاجتهادية ولاختلافهم جهات متعددة. منها جهة المعنى ودلالته والوقوف عند ظاهر النص. وجهة الكلام فيما وقع وفيما لم يقع. وهاتان الناحيتان هما اللتان نعنى بهما النزعات فى هذا المقام.
لم يكن المجتهدون الأولون يتكلمون بعبارات التعليل والقياس وما إلى ذلك وإنما هى عبارات استعملها متأخروا المجتهدين وكان الأولون يذكرون المعانى دون العلل والقياس ولكن المراد لا يختلف. والمجتهدون جميعا من هذه الناحية كانت لهم نزعات ثلاث: نزعتان لأرباب المعانى ونزعة لأرباب الظاهر.
أرباب المعانى:
الناس بفطرتهم جد مختلفين. يتناولون من الأمور وما يسلكون من طرق البحث والاستنباط. ففريق منهم لا يبخس الألفاظ ودلالتها ما لها من حق، ولكنه يتغلغل فى معانيها ويسبر أغوارها ويتحرى مراميها وفريق آّخر لا يضيع عنده حق المعانى ولكنه يرعى ذلك بقدر ويهاب التغلغل فى التعليل والقياس، ويقف عند ما تدل عليه الألفاظ.
هذا هو شأن الناس فى أمورهم، وهكذا كان شأن المجتهدين الفقهاء الذين يرون التعليل والاعتماد على القياس فى تناولهم للأحكام الفقهية واجتهادهم فى استنباطها، كلهم يعطى الألفاظ أتم الرعاية وكلهم يقيس الأشياء بنظائرها، ولكنهم مختلفون فى المعنى الذى ذكرت.
ففريق منهم يسعى الى فهم روح التشريع وتذوق معانيه والغوص على علله وحكمه، وشوطه فى هذه الناحية أبعد من شوط الفريق الآخر الذى يحرص على ما ظهر من المعا نى، ولا يريد الابتعاد عنه بالمقدار الذى يبتعد به الفريق الأول.
وللفريق الأول فى هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم معين. فقد كان حريصا على توجيههم إلى المعانى وتذوق أسرار التشريع. فقد قال لمن سأله أيقضى أحدنا شهوته ويؤجر: أرأيت لو وضعها فى حرام أكان يأثم؟ قال: نعم. قال: فكذلك يؤجر، أفتجزون بالشر ولا تجزون بالخير؟ وقال لمن أخبره أن امرأته ولدت غلاما أسود: هل لك من إبل! قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا. قال: فأنى أتاها ذلك قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: فهذا عسى أن يكون نزعة عرق.
وقال لعمر بن الخطاب حين سأله عن قبلة الصائم لامرأته: أرأيت لو تمضمض بماء ومجه وهو صائم؟ قال عمر: لا بأس. قال: فكذلك هذا.
وقال للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ذلك ينفعه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق.
وأمر المسلمين ألا يصلوا العصر إلا فى بنى قريظة. فوقف بعضهم عند ظاهر الأمر. وتفهم الآخرون المعنى وعملوا بما رأوا أنه مرماه فما عابهم، وهذه هى سنة القراّن الكريم فى مخاطبة العقول ودعوتها الى التدبر والنظر فى جميع الأمور.
أما الفريق الثانى فآثر ما يراه احتياطا فى الوصول إلى حكم الله، وطلب السلامة لنفسه فى ذلك.
ومن طبيعة الاتجاه الأول أن يحل صاحبه متى اطمأن إلى غزارة علمه وقوة إدراكه، على البحث والنظر فيما ورد بالكتاب والسنة من جهة دلالة اللفظ ودلالة المعنى مع الغوص والتعمق، ثم الإقدام على الفتيا وعدم التهيب.
ومن طبيعة الاتجاه الثانى أن يحمل صاحبه على التهيب وتمنى أن لو كفاه الأمر غيره. وكان على الاتجاه الأول أم المؤمنين عائشة وعمر وعلى وابن مسعود وزيد وابن عباس وغيرهم من فقهاء الصحابة المكثرين. كما كان عليه فقهاء المدينة السبعة وبخاصة ابن المسيب الذى كان يسمى سعيدا الجرىء، ومسروق وعلقمة والزهرى وربيعة وإبراهيم النخعى وحماد وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبى ليلى والأوزاعى والشافعى والمزنى وأبو ثور وكثيرون من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.
وكان على الاتجاه الثانى مثل أبى الدرداء وابن سيرين وأحمد بن حنبل وبعض فقهاء الأمصار، ثم انتهت نزعة التهيب ولم يبق لها إلا أثر ضئيل حتى فى طور التقليد.
أما الرأى الذى لا يقف عند دلالة ما نزل به الوحى ويعتمد على استحسان العقول فذلك هو الرأى المذموم الذى حمى الله سبحانه وتعالى منه جميع المجتهدين.
أهل الظاهر:
أما أهل الظاهر فإنهم ينكرون ما للمعانى من دلالة، ولا يقولون بتعليل ولا قياس. ولا يعتمدون إلا على ظاهر النص. ويرون أنه لا حاجة إلى القول بالتعليل والقياس، والنصوص تفى بالأحكام ما دامت هذه الحياة. فما أوجبه الله تعالى من طريق الوحى بدلالة لفظه الظاهرة فهو واجب، وما نهى عنه من هذا الطريق فهر المحرم، وما عدا ذلك فمباح ومنه المكروه والمندوب.
فلا اجتهاد إلا للوصول إلى حكم الوحى وفى تفهم المراد من لفظه وليس هناك اجتهاد آخر لعدم الحاجة إليه.
ناحية الواقع:
كان المجتهدون من الصحابة والتابعين لا يتكلمون إلا فيما وقع ونزل، ولا يجتهدون فى أمر قدر وفرض ولم يقع، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يلعن من فوق منبره من يسأل عما لم يقع، فلم يكن فى هذين العصرين فقه فرضى، وإنما كان ذلك فى عهد فقهاء الأمصار، حيث كثرت المجادلات والمناظرات الفقهية التى جرت إلى الالتجاء إلى الصور المفروضة، ليتمكن المناظر من إفحام خصمه وإلزامه بما هو غير مقبول، ثم دخلت هذه الفروض فى الفقه لغير ذلك، وكان أصحاب هذه الطريقة يفخرون بأن وضع المسائل يعتبر نصف الفقه، ويبررون بحثهم عن حكم ما لم يقع بأنه استعداد للبلاء قبل وقوعه.
وكان من لا يرون ذلك يعيبون طريقة الفقه الفرضى، ويشنعون على أهله ويسمونهم الأرأيتيين (أخذا من قولهم: أرأيت كذا) ، ومن الفريق الأول أبو حنيفة وأ صحابه، والشافعى وأصحابه. أما مالك نفسه فكان يأبى الكلام فيما لم يقع، وكان أصحابه يتحيلون فيرسلون إليه بالمسألة من يزعم له أنها وقعت، ولما قدم إليه أسد بن الفرات بمسائل أهل العراق لم يرض بالكلام معه فيها، ولكنه أحاله على ابن القاسم.
غير أنه لم تمض إلا فترة وجيزة حتى اشتغل الكل بالفقه الفرضى، فيما بقى من طور الاجتهاد وفى طور التقليد، وإنك لتجد هذا واضحا فى المؤلفات الفقهية. والحق أنه لو قدر نجاح الفكرة التى تقاوم هذا النوع من الفقه ما كانت لنا هذه الثروة الفقهية العظمى الوافية التى نعتز ونفاخر بها.
ج - المذاهب الفقهية:
كان لكل مجتهد من فقهاء الصحابة والتابعين من أخذوا عنه واتبعوه. غير أن الوسيلة الوحيدة إذ ذاك للنقل كانت الحفظ، ينقل عن كل مجتهد ما ذهب إليه غير مختلط بما ذهب إليه أصحابه ومن أخذ عنه. ولما بدأ التدوين دون أصحاب المجتهدين أقوالهم وأقوال أساتذتهم مجتمعة، أو أملى المجتهد مذهبه، ثم لم يلبث أصحابه أن دونوا كما دون السابقون، وأطلق فيما بعد اسم الأستاذ على المجموعة كلها، ونسب هذا المذهب المختلط إليه تكريما له واعترافا برياسته، كما هو الحال فى مذاهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وداود والطبرى.
أما الذين دونوا مذاهبهم بأنفسهم ولم يتدخل أصحابهم فى تدوينها كالثورى والأوزاعى وأبى ثور والليث، وأما الذين بقى حظ مذهبهم هو النقل من طريق الحفظ، فبقيت مذاهبهم مذاهب فردية لم تختلط فيها أقوالهم بأقوال غيرهم، وينقلها الآخرون فيما يدونون كما ينقلون مذاهب الصحابة والتابعين. ومنذ أواخر عصر التابعين ظهرت المذاهب الفقهية التى نشأت عن المذاهب السياسية ظهورا بينا، وهى: مذاهب الخوارج، الذين كانوا يسمون أيضا بالحرورية، وكانوا هم يسمون أنفسهم الشراة وهم طوائف متعددة.
ولا يعرف لهم مذاهب فقهية إلا مذهب الإباضية الذى بقى حتى اليوم.
ومذاهب شيعة على رضى الله عنه، وهم طوائف كثيرة جدا، أشهرها الزيدية أتباع زيد بن على زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن على. والإمامية وهم فرق أشهرها الشيعة الإمامية الاثناعشرية والجعفرية، والإسماعيلية أو الباطنية ومنهم العبيديون أو الفاطميون الذين ظهروا بالمغرب ثم استولوا على مصر وما جاورها. والمذاهب الثلاثة لا تزال قائمة. وإن كان الغموض حليف فقه الإسماعيلية منذ ظهورها حتى اليوم.
ومذاهب من عدا الخوارج والشيعة أطلق عليها اسم مذاهب أهل السنة، كما أن الشيعة لا يطلقون اسم المؤمن فى كتبهم الفقهية إلا على من كان شيعيا ويسمون أهل السنة المسلمين العوام، والعامة. ورغم أن الكلام فى العقائد كثر جدا وكانت هناك فرق وآراء، وكان أظهر الآراء بين الفقهاء آراء أهل السنة، والأشعرية والماتريدية، والمعتزلة والقدرية والمشبهة وكان من هذه الآراء ما يطعن به بعض الفقهاء على البعض الآخر لينفر من اتباعه، غير أن المذاهب الكلامية لم تكن سببا فى تمييز مذاهب فقهية كما أدى الى ذلك الاختلاف السياسى. والمذاهب الفقهية كغيرها من الكائنات لا تقوم ولا تحيا إلا بحيويتها هى وقوة مناعتها، وما يكتب لها من القبول، وما يهبها الله سبحانه وتعالى من كثرة الأتباع وقوة عارضتهم وما منحوا من حصافة الرأى وقد يكون للسلطان دخل فى ذلك ولكنه ليس كل شىء كما يرى ابن حزم، بل هو آخر العوامل فى مثل هذه الأمور الدينية التي يسندها الإيمان والاعتقاد أكثر من أى شىء آخر، وإلا فلم كان منصب القضاء والقرب من أولى الأمر سعيا فى انتشار مذهب أبى حنيفة فى العراق، ولم يكن سببا لانتشاره فى مصر ولا فى سائر الأقطار الأخرى، مع أن الخلافة واحدة والدولة فى ذروة قوتها؟
وإذا كان سلطان الحكم بن هشام والقربى منه قد أعانا على دخول مذهب مالك وانتشاره بالأندلس فلم لم يقض عليه ما كان بين الحكم نفسه وبين يحيى بن يحيى وزمرة الفقهاء من الفتن والثورات، ولم أعرض المصريون أتم الإعراض عن مذهب الفاطميين وقد بقى سلطانهم بمصر الأمد الطويل وكان لهم من أساليب الدعاية ما هو معروف، ولم لم يحول سلطان الأتراك ونفوذهم أهل مصر عن المذاهب التى يتبعونها؟.
إن المسألة مسألة القوة والحيوية للمذهب نفسه ولأتباعه قبل كل شىء.
ولسنا ننكر أن فى كل عصر من يغريهم السلطان والقربى من أهله ومن يرجون النفع باعتناق فكرة أو مذهب معين. ولكنهم على الدوام تافهون، ولم يكونوا يوما من العوامل القوية التى يكون لها الأثر الواضح فى المحيط العام ولا يتجاوز أثرهم المناطق الخاصة، فالمسلم فى كل عصر لا ينزع إلى مذهب ديني إلا عن عقيدة منشؤها أما النظر والبحث إن كان من أهلها، وأما الثقة بمن يحبهم ويجلهم وتربى فى حجورهم، وأما الدعاية البارعة المحببة ممن لهم مكانة فى نفوس العامة، أما سيف المعز وذهبه فقل أن يفلحا فى مثل هذا الأمر الدين الإسلامى نفسه لم ينتشر إلا بقوته ومنعته ومزاياه، وأى مذهب فقهى فسبيل انتشاره هو سبيل انتشار هذا الدين. وغفر الله لأصحاب نظريه السلطان. لقد ذهبوا إليها فى حسن نية، ولو تيقظوا إلى ما انفتح علينا من بعدهم لتدبروا أمرهم ولأعرضوا عنها بحق وعن بينة.
ويقيننا أنهم ما كانوا يعنون منها أكثر من أن السلطان مكن أتباع هذه المذاهب من الدعوة إليها، وإظهار ما فيها من القوة فحببوا فيها العامة بهذا وحده، كما كان يفعل زفر ابن الهذيل حينما كان قاضيا بالبصرة، فكان يدرس ويبدى الرأى الدقيق الذى ترضاه النفوس حتى إذا رأى الإعجاب من سامعيه قال لهم أن هذا هو مذهب أبى حنيفة وما زال يجرى على هذه الطريقة حتى حبب إليهم أبا حنيفة ومذهبه بعد أن كانت شقة الخلف واسعة بين الكوفة والبصرة بسبب الصراع فى مسائل العقائد. ولو أن أصحاب فكرة السلطان أرادوا غير هذا لكانوا على خط بين من شأنه أن يفتح علينا أبوابا من المطاعن المختلفة والمتربصون لهذا كثيرون. فالمذاهب الفقهية إنما عاشت بقوتها ِومنعتها، وبأتباعها وحسن أسلوبهم فى الدعاية والتحبب وإظهار المحاسن.
أما أسلوب الطعن والتشهير بالمذاهب فأسلوب ممقوت إن ارتضاه واحد لعنه مئات، وإن راج فى لحظة انحط قدره سنوات وسنوات، وهكذا كان حكم الرأى العام على أسلوب إمام الحرمين والرازى والخطيب البغدادى ومن نهج منهجهم فى الطعن على أبى حنيفة، وكذلك كان حكمه على من طعنوا على إمام دار الهجرة وعلى من طعنوا على غيره، وكان حكمه المبرم أتهم جميعا أئمة هدى ومن سلك طريق أى واحد منهم لقى الله سالما، ومن المذاهب الفقهية ما قصر أجله، ومنها ما طال عمره وقوى نفوذه. ومذاهب الصحابة والتابعين ليست مما نعنيه بهذا القول، فهى الموارد الفعالة والعاصر القوية التى تكونت منها مذاهب فقهاء الأمصار واندمجت فيها اندماجا لم يميزها على حده فى الكتب الفقهية المذهبية.
ومع هذا بقيت متميزة محفوظة فى كتب الآثار، وفى كتب اختلاف الفقهاء، وفى كتب التفسير الأولى وشروح الحديث الموسعة، ونقلت إلينا نقلا صحيحا، وهى الذخيرة الأولى الباقية، وهى الضياء الهادى فى كل عصر، فلا يصغ إلى ما قاله إمام الحرمين وابن الصلاح فى شأن اتباعها والأخذ بها، فليس ذلك إلا عصبية مذهبية عرفت عن نفر قليل عن الشافعية ومن المذاهب الفقهية من لم يعرف أنه كان له من الأتباع من التزموا الأخذ بها فهى كما نشأت حتى اليوم ولا نعرف عن أحكامها إلا ما نقل إلينا فى ثنايا الكتب الفقهية أو كتب اختلاف الفقهاء.
أما سفيان الثورى الذى توفى سنة 161 هجرية فكان له أتباع أخذوا عنه ورووا كتبه ولكنه مات مستترا من ذوى السلطان ودفن عشاء. وكان قد أوصى فى كتبه فمحيت وأحرقت. وكان من الآخذين عنه أناس باليمن، وآخرون بأصفهان، وقوم بالموصل وقد انقرض أهل هذا المذهب فى وقت قصير جدا ثم اختفت كتبهم.
أما عبد الرحمن الأوزاعى المتوفى سنة 157 هجرية فقد انتشر مذهبه بالشام حتى ولى قضاء دمشق أبو زرعة محمد بن عثمان من أتباع الشافعى الذى أدخل مذهبه بالشام وصل على نشره، وكان يهب لمن يحفظ مختصر المزنى مائة دينار. وبالدعوة إلى هذا المذهب انقرض أتباع الأوزاعى بالشام فى القرن الرابع. وكان مذهب الأوازعى الغالب على أهل الأندلس، ثم انقطع هناك بعد المائين وتغلب مذهب مالك.
ويقول ابن فرحون المتوفى سنة 799 هجرية إن داود بن على المتوفى سنة 270 هجرية كثر أتباعه وانتشر مذهبه ببلاد بغداد وبلاد فارس وأخذ به قليلون من أهل إفريقية وأهل الأندلس وهو ضعيف الآن أى فى عصر ابن فرحون.
ويقول ابن خلدون المتوفى سنة 808 هجرية: إن مذهب أهل الظاهر قد اندرس اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحليه ولم يبق إلا فى الكتب المجلدة وربما عكف عليها كثير من الطالبين الذين تكلفوا انتحال هذا المذهب ليأخذوا منه مذهبهم وفقههم فلا يظفرون بطائل، ولا ينالون إلا مخالفة الجمهور وإنكارهم عليهم وربما عدوا مبتدعين بنقلهم العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين.
وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو مرتبة فى حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظاهر، ومهر فيه باجتهاد زعمه، وخالف إمامهم داود، وتعرض للكثير من أئمة المسلمين فنقم ذلك الناس عليه، وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا وتلقوا كتبه بالإغفال والترك، حتى أنه ليحظر بيعها بالأسواق وربما مزقت فى بعض الأحيان.
وهذا التعصب البغيض لم يقو على هدم الإمام ابن حزم ولا على إبادة الكثير من مؤلفاته وبقيت آراؤه واجتهاداته ومؤلفاته نبعا فقهيا صافيا فياضا، لم يذهب ببهجتها وجلالها وروعتها ما فيها من سلاطة القول، وشناعة التشهير بمخالفيه.
أما الطبرى، أبو جعفر محمد بن جرير المتوفى سنة 310 هجرية فقد أخذ الفقه عن داود، ودرس فقه أهل العراق ومالك والشافعى على رجاله، ولم ير أحمد فقيها وما رآه إلا محدثا، ولذا شنعوا عليه بعد موته. وبعد أن نضج كان له مذهب فى الفقه اختاره لنفسه وكان له أتباع من أجلهم المعافى النهروانى القاضى، وكانت له ولأتباعه مؤلفات فقهية لكنها لم تصل إلينا ولولا تفسيره الجليل ما وصل إلينا هذا القدر القيم من مذهبه. ولم نقف حتى الآن على أنه كان له أتباع موجودون بعد القرن الرابع.
والمذاهب الفقهية الباقية أتباعها حتى اليوم هى المذاهب الأربعة ومذهبا الزيدية والجعفرية والإمامية والاثنا عشرية ومذهب الإباضية. أما الفرقة الإسماعيلية فلها أتباعها ولكن فقهها ليس بظاهر.
والمذهب الحنفى قد انتشر من العراق ودخل مصر والروم وبلخ وبخارى وفرغانة وطشقند وخيوى وخوارزم وبلاد فارس وأكثر بلاد الهند والسند وبعض بلاد اليمن وغيرها، ولما قامت دولة الأتراك العثمانيين كان مذهب الدولة.
والحنفية اليوم يوجدون بقلة فى شمال أفريقيا وأكثرهم بتونس وأكثرهم من بقايا الأسر التركية، وتمتاز حاضرتها بمشاركة القضاء الحنفى للقضاء المالكى وفيها كبيرا المفتين وهما حنفى ومالكى، وكان الحنفى يلقب بشيخ الإسلام وله التقدم على المالكى وكان المتبع أن يكون نصف مدرسى جامع الزيتونة من الحنفيين والنصف الآخر من المالكيين.
ورغما من أن سلسلة العلماء من الحنفيين لم تنقطع بمصر كان إقبال أهلها على اتباع هذا المذهب ضعيفا ويكاد يكون قاصرا على الأسر التركية والشركسية وما إليها، وبتوالى الزمن كادت مدرسة هذا المذهب تكون قاصرة على المدرسين والطلاب برواق الأتراك، ورواق الشوام بالأزهر، غير أن الشيخ محمدا الرافعى حبب نخبة صالحة من المصريين فى دراسة هذا المذهب وانضم إلى ذلك إنشاء أبى بكر راتب باشا مدير ديوان عموم الأوقاف وزارة الأوقاف لرواق الحنفية بنصيحة من مفتى الحنفية وشيخ الأزهر الشيخ محمد المهدى العباسى. أنشأه من ماله ووقف عليه الأوقاف الكافية ورتب للعلماء والطلاب ما يجرى عليهم من الخبز والمال، كما انضم إليه أيضا أن الإفتاء والقضاء يكونان بهذا المذهب بإلزام من الخليفة فازداد علماء هذا المذهب وطلابه باطراد حتى أصيح أهله أكثر من أهل أى مذهب آخر، ولكن هذا لم يغير من الوضع خارج معاهد التعليم، ويكاد يكون نصف أهل الشام اليوم من الحنفية، وكانوا قلة بفلسطين، وهم الأكثرون من الأتراك العثمانيين والألبان وسكان بلاد البلقان وهم قليلون فى بلاد فارس. وهم الأكثرون فى تركستان الغربية وتركستان الشرقية وبلاد القوقاز وما والاها، والكثرة الساحقة من مسلمى باكستان هم الحنفية، وهم الأقلون فى سيام نزحوا إليها من الهند وفى البرازيل نحو 25 ألف حنفى.
ونشأ مذهب مالك بالمدينة وأدخله بمصر عبد الرحمن بن خالد وعثمان بن الحكم ونشراه بها هما وعبد الرحمن بن القاسم ثم زاحمه مذهب الشافعى بها. وانتشر فى أوائل القرن الخامس بأفريقيا وسائر بلاد المغرب. كما دخل الأندلس فى عهد هشام وتغلب هناك. وكان بالقرن الرابع بالعراق وبالأهواز، وهو اليوم متغلب فى بلاد المغرب، أى شمال أفريقية، وفى السودان وفى صعيد مصر وينافسه المذهب الشافعى فى المدن وفى بلاد الوجه البحرى. ويغلب فى قطر وفى البحرين والكويت، كما يوجد فى بعض مدن الحجاز.
ومذهب الشافعى ظهر بمصر وبالعراق، وغلب على بغداد وكثير من بلاد خراسان والشام واليمن ودخل بلاد ما وراء النهر وبلاد فارس والحجاز وبعض بلاد الهند، ودخل شىء منه أفريقية والأندلس، والشافعية فى العراق وخراسان وما وراء النهر شاركوا الحنفية فى الفتوى والتدريس وعقدت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الاختلاف بأنواع حججهم كما نجد العناية بذلك واضحة فى كتب كل من المذهبين التى ألفها فقهاء تلك البلاد من الفريقين.
وهو اليوم يزاحم مذهب مالك بمصر، ويتبعه نحو الربع من أهل السنة بالشام، كما تبعه الأقلون من أهل فلسطين قبل نكبتها.
وله المرتبة الثانية بعد مذهب أبى حنيفة فى العراق، ويغلب فى بلاد الأكراد وبلاد أرمينية، وأكثر السنيين من أهل فارس شافعية، ومنهم أقلية فى القوقاز والهند. ويغلب فى جاوة وسيلان والفلبين وسيام والهند الصينية واستراليا والحجاز واليمن وعدن وحضرموت.
ومذهب الحنابلة ظهر ببغداد ومقلدوه منذ ظهوره كانوا قليلين وكان أكثرهم بالعراق والشام، ولم يسمع بأنه كان له تغلب إلا ببغداد حوالى سنة 323 هجرية حيث استفحل أمرهم، وكانت منهم بتلك السنة فتنة الأمر بالمعروف، وكانت لهم فتنة مع الشافعية أيضا.
ويغلب هذا المذهب اليوم على أهل نجد، وأتباعه نحو ربع أهل السنة بالشام، ويوجد بعضهم بالأفغان والحجاز وقطر والبحرين. وكاد ينقرض علماؤه ومتعلموه وأتباعه بمصر لولا ما كان من أبى بكر راتب باشا فى وقفه الذى وقفه على رواق الحنفية فقد جعل لعلماء وطلاب مذهب أحمد نصيبا هينا، كان السبب فى بقاء نفر يعدون على الأصابع ولا يعرف أن تقليده من عامة المصريين مر بخاطر أحد منهم.
أما الشيعة الإمامية الإسماعيلية أو الباطنية فقد ظهر مذهبهم فى شمال إفريقية ودخلوا به مصر حينما استولوا عليها وعلى بلاد الشام، وكان مذهبهم المذهب الرسمى وشاركه بعض المذاهب الأربعة وبقى بمصر مدة دولتهم غير أن أحدا من أهل مصر لم يتبع هذا المذهب.
وقد انقرض هذا المذهب وأهله من مصر بزوال دولة الفاطميين ولم يبق اليوم من هذه الطائفة سوى أتباع أغاخان بالهند وجنوب أفريقيا وبعض بلاد الشام. ولا يعرف لهم فقه اليوم.
أما الشيعة الإمامية الاثنا عشرية فكان مذهبهم منتشرا بالعراق وآسيا الشرقية وبعض بلاد الجزيرة وهو اليوم بالعراق وفارس، وأتباعه أقلية فى البلاد الأخرى.
أما الزيدية فكانوا بالعراق وشرق آسيا والجزيرة، وهم اليوم باليمن.
ولكل من المذهبين فقهه القائم المتتابع وأئمتهم ومؤلفاتهم المدروسة المحققة.
وأما الإباضية (بكسرالهمزة وينطقها أهل شمال أفريقيا بالفتح) فهم أتباع عبد الله بن إباض المتوفى حوالى سنة 80 هجرية فى عهد عبد الملك بن مروان. وقد وجدت الحركة الإباضية تربتها الخصبة فى بلاد العرب. وبخاصة فى عمان حيث أصبحت بتوالى الزمن المذهب السائد بها، ودخل (?) هذا المذهب المغرب وانتشر بين البربر، وحكمت منهم أسر لم يزل حكمها إلا بقيام دولة الفاطميين، والإباضية أكثر فرق الخوارج اعتدالا ولهم مذهبهم فى الإمامة وفى بعض العقائد. أما الفقه فإنهم فيه كغيرهم إلا بمقدار ما يتأثر بالمذهب السياسى وهم الآن بعمان، وشمال أفريقيا، وزنجبار.
د) طور التقليد:
الاتباع والتقليد لم يخل منهما عصر من العصور. فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا جميعا من المجتهدين فكان منهم المجتهد، وكان من يليه، وكان العامى وهكذا كان حال من جاءوا بعدهم. وما نعنى بطور التقليد إلا الطور الذى اختفى فيه ظهور أئمة مجتهدين مستقلين معترف لهم بذلك من الرأى العام الفقهى. ويبدأ هذا الطور من نهاية طور الاجتهاد وهو لم ينته بعد.
على أن هذا الطور لم يخل ممن ادعى الاجتهاد المطلق، أو ادعى له، كالقفال الصغير، وعز الدين بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والسبكى، الذى يقول الصفدى إن تسويته بالغزالى ظلم له وإنما هو كسفيان الثورى، وكابنه عبد الوهاب صاحب جمع الجوامع والطبقات الذى يكتب فى ورقة لنائب الشام " أنا اليوم مجتهد الدنيا على الاطلاق ولا يقدر أحد يرد على هذه الكلمة ".
وكان فى هذا العصر مجتهدون منتسبون كأبى جعفر الطحاوى المتوفى سنة 321 هجرية من المنتسبين إلى مذهب أبى حنيفة، وكابن المواز، وقاسم الأموى القرطبى، والقاضى عبد الوهاب من المنتسبين إلى مذهب مالك، وكالمزنى ومحمد بن نصر المروزى وأبى بكر الصيرفى المنتسبين إلى مذهب أحمد وابن حزم المنتسب الى الظاهرية.. فهؤلاء وأمثالهم كانت لهم موافقات للمذاهب التى انتسبوا إليها كما كانت لهم مخالفات واختيارات خارجة عنها.
وكان فى هذا الطور كثيرون من مجتهدى المسائل، أو من يسمون مجتهدى المذهب ومن أهل التخريج وأصحاب الوجوه وأهل التخريج.
فمن هؤلاء من الحنفية:
أبو منصور الماتريدى المتوفى سنة 333 هجرية
وأبو الحسن الكرخى المتوفى سنة 340 هجرية
والحاكم الشهيد المتوفى سنة 344 هجرية
والجصاص المتوفى سنة 370 هجرية
وإمام الهدى أبو الليث السمرقندى المتوفى سنة 373 هجرية
وأبو جعفر النسفى المتوفى سنة 414 هجرية
وأبو على النسفى المتوفى سنة 454 هجرية
وأبو الحسن القدورى المتوفى سنة 428 هجرية
وأبو زيد الدبوسى المتوفى سنة 430 هجرية.
وأبو العباس الناطفى المتوفى سنة 440 هجرية.
وشمس الأئمة الحلوانى المتوفى سنة 448 هجرية
وشمس الأئمة السرخسى المتوفى سنة 483 هجرية
والصدر الشهيد المتوفى سنة 536 هجرية
وعلاء الدين الكاسانى المتوفى سنة 587 هجرية.
وقاضيخان المتوفى سنة 592 هجرية
والميرغينانى المتوفى سنة 593 هجرية.
وكان من هؤلاء من المالكيين:
ابن أبى زيد القيروانى المتوفى سنة 386 هجرية
وأبو سعيد البرادعى صاحب التهذيب المتوفى سنة 392 هجرية
واللخمى المتوفى سنة 478 هجرية
والباجى المتوفى سنة 494 هجرية
وابن رشد المتوفى سنة 520 هجرية
والمازنى المتوفى سنة 536 هجرية
وابن الحاجب المتوفى سنة 646 هجرية
والقرافى المتوفى سنة 684 هجرية
وخليل بن إسحاق.
وكان من هؤلاء من الشافعية:
أبو سعيد الأصطخرى المتوفى سنة 328 هجرية
والقفال الكبير الشاشى المتوفى سنة 507 هجرية
وأبو حامد الأسفرايينى المتوفى 406 هجرية
وابن فورك المتوفى سنة 406 هجرية
وأبو إسحاق الشيرازى المتوفى سنة 476 هجرية
وأبو إسحاق الأسفرايينى المتوفى سنة 418 هجرية
وأبو منصور عبد القادر بن طاهر المتوفى سنة 429 هجرية
والماوردى المتوفى سنة 450 هجرية
وابن اللبان المتوفى سنة 446 هجرية
وإمام الحرمين المتوفى سنة 478 هجرية
وحجة الإسلام الغزالى المتوفى سنة 505 هجرية
والرافعى المتوفى سنة 623 هجرية
والنووى المتوفى سنة 676 هجرية
وابن الرفعة المتوفى سنة 710 هجرية.
وكان من هؤلاء من الحنابلة:
أبو بكر الخلال المتوفى سنة 311 هجرية
وأبو بكر غلام الخلال المتوفى سنة 363 هجرية
وأبو القاسم الخرقى المتوفى سنة 334 هجرية
والقاضى أبو يعلى الكبير المتوفى سنة 458 هجرية
وأبو الخطاب المتوفى سنة 510 هجرية
وأبو يعلى الصغير المتوفى سنة 560 هجرية
وموفق الدين بن قدامة المتوفى سنة 620 هجرية
وابن القيم المتوفى سنة 751 هجرية
وابن مفلح المتوفى سنة 763 هجرية
وابن رجب المتوفى سنة 795 هجرية.
وكان فى الطبقة التى تلى جميع هؤلاء من لم يبلغوا مرتبتهم ولكنهم لجأوا إلى الاستظهار والأخذ والتفقه فلم يقفوا بالفقه جامدا وواجهوا الأحداث وقرروا الأحكام على وجه لا يتردد من يطلع عليه فى أنه اجتهاد ونظر فى الكتاب وفى السنة وفى وجوه المعانى كما يفعل المجتهدون تماما. وإنك لتجد هذا واضحا فيما لا يكاد يحصى من المسائل، وأذكر منها على سبيل المثال ما كان بشأن فقدان وقت العشاء الذى جر إلى الكلام عن المنطقة القريبة من المنطقة القطبية الشمالية وعن المواقيت فيها. وما كان بشأن بيع الوفاء. والنزول عن الوظائف والمرتبات فى الأوقاف نظير عوض. وبشأن تصرفات الأصحاء فى بلد نشأ فيه الوباء، وبشأن التلفيق فى العبادة الواحدة والمعاملة الواحدة، وبشأن الحكر وما يتعلق به، وبشأن تناول القهوة المتخذة من شجرة البن، وبشأن استعمال الطباق (الدخان) سعوطا وتدخينا وامتضاغا، وبشأن السوكرة أو السوكرتاه وضمان ما يهلك من التجارة ة وإذا استثنينا المجتهدين من الأنواع الثلاثة لم تكن المصادر الفقهية مصادر لمن عداهم وما بصدرهم إلا ما نقل إليهم من كلام أئمة المذهب الذين يقلدون أهله، فهذا هو مصدرهم الوحيد. هكذا قالوا، وهكذا توارثوا هذا القول، ولكننا نجد من أهل هذه الطبقة الفقهاء المحصلين والمحدثين البارعين القادرين، ونجدهم يتغلغلون فى أدلة الأحكام على اختلاف أنواعها ويؤيدون ويزيفون فى قوة حجة ومتانة رأى، غير أن الرأى العام الفقهى لم يعترف لهم بأكثر من هذه المرتبة.
ولكن هذا المسلك لم يصب الفقه بأذى وسيان أن تكون مسايرة الحياة ومواجهة الأحداث باسم الاجتهاد أو باسم التخريج ونظائره أو باسم الأخذ والتفقه، ما دام الكل مؤديا للغاية ومحققا للمقصود.
والفقه فى هذا الطور قد اتسع نطاقه وتمت مسائله وأخذ أوضاعا لها شأنها. فقد كثرت الفتاوى فى الواقعات والنوازل وفيها ما ينطوى عنى استنباط أحكام وفيها ما لا استنباط فيه ولكنه تطبيق للأحكام المعروفة يتفاوت القائمون به فى الدقة وملاحظة الاعتبارات الخفية. فكان هذا وما كان من اختلاف الروايات عن أئمة المذهب الواحد واختلاف آراء الفقهاء فيه كان كل أولئك سببا لتعدد الأقوال والحاجة إلى الترجيح ثم إلى قواعد للترجيح يعتمد عليها فى معرفة الراجح من ليس من أهل الترجيح واندمج كل هذا فى الفقه، فاتسع نطاقه.
وقد عنى الفقهاء فى هذا الطور بمسائل أصول الفقه التى ما كانت تعدو أن تكون مقدمة فقهية وما زالوا يبحثون ويتوسعون حتى جعلوا ذلك علما مستقلا.
وفى هذا الطور ظهر لون من الفقه لم يكن واضحا قبله حيث وضعت أصول للمسائل وقواعد كلية تدور فى أبواب مختلفة من الفقه، كما فعل الكرخى فى رسالته، وأبو زيد الدبوسى فى تأسيس النظر، وقاضيخان والحصيرى فى أوائل كل باب من شرحهما للجامع الكبير لمحمد، وصاحب جامع الفصول فى أكثر فصوله، وابن نجيم فى الأشباه والنظائر، والقرافى فى الفروق، وابن عبد السلام، والزركشى فى القواعد، وابن رجب فى القواعد الكبرى ... كما توسعوا فى بيان الجمع والفروق بين المسائل، وفى وضع الألغاز الفقهية ومسائل المعاياة.
وفى هذا الطور لم تقف دراسة الفقهاء عند المذاهب التى ينتسبون إليها بل اتجهت عنايتهم إلى دراسة اختلاف الفقهاء وجمعة وتدوينه، فاشتغل به أبو جعفر الطحاوى ووضع فيه موسوعة بلغت نيفا وثلاثين ومائة جزء، اختصرها فيما بعد الجصاص، واشتغل به أيضا ابن جرير الطبرى يذكر فيه أحمد بن حنبل وقال إنه محدث وليس بفقيه، ولذلك رماه أتباع أحمد بعد موته بالرفض.
وكذلك اشتغل به المجتهد المنتسب أبو على الحسن بن خطير فجمع اختلاف الصحابة والتابعين والفقهاء، والنيسابورى الشافعى وله كتاب الانتصاف فى اختلاف العلماء قال فيه الشيرازى إنه مما يحتاج إليه الموافق والمحا لف.
ولابن هبيرة الإفصاح. وللإسفرايينى فى الاختلاف كتاب الينابيع، وللشعرانى الميزان وهذه الثلاثة الأخيرة لم يذكر فيها إلا اختلاف المذاهب الأربعة ولم تكن كالتى ذكرت قبلها.
ومن الكتب التى كان أصل وضعها أن تكون مذهبية إلا أنها من أوسع كتب اختلاف الفقهاء: المغنى لابن قدامة الحنبلى، والمحلى لابن حز م، وهما البقية الباقية لنا من مبسوطات كتب الاختلاف.
وفى هذا الطور تحولت الدراسة إلى المختصرات المتعاصرة أو المتتالية فى كل مذهب، فانصرفت الهمم إلى شرحها والتعليق عليها كمختصرات الطحاوى والكرخى والقدورى والبداية للميرغينانى والوقاية والنقاية لصدر الشريعة وجده، وكنز النسفى وما كان بعدها من المختصرات عند الحنفية. وكمختصر ابن أبى زيد وتهذيب البرادعى ومختصر ابن الحاجب فى الفروع ومختصر خليل بن إسحاق وأقرب المسالك للدردير ومجموع الأمير عند المالكية.
وكمختصر المزنى والمهذب والتنبيه للسيرازى والوجيز للغزالى والمنهاج للنووى والتحرير لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى والمنهج للسيوطى عند الشافعية. والإقبال على هذه المختصرات التى عرفت أخيرا باسم المتون أدى إلى إهمال المبسوطات السابقة واعتبارها مراجع، فلم تلق من العناية بالتحرير والرواية ما لقيته المختصرات المتدارسة والمشروحة، فصارت عرضة للضياع، بل ضاع الكثير منها وما وصل إلينا وصل إلينا محرفا تحوم حوله شبهات، وبلغت العناية بالمختصرات أشدها ثم زادت أخيرا عن حدها، وكثر التعرض لتحليل ألفاظها وغير ذلك مما لا صلة له بالفقه وامتلأت بذلك الحواشى والتقريرات. والمساجد كانت هى أماكن المدارسة الأصلية، وتقوم بجانبها بيوت العلماء، وفى بداية هذا الطور وجدت المدارس التى أنشئت ووقفت عليها الأوقاف التى تكفل معونة العلماء والطلاب وتكفل أرزاقهم كسا وضعت بها الكتب الموقوفة التى يحتاجون إليها.
وربما كانت أول مدرسة هى المدرسة النظامية التى أنشأها نظام الملك بنيسابور للشيرازى، وتوالى يعدها إنشاء المدارس النظامية فى بغداد ودمشق وغيرها من البلاد.
وكثر إنشاء المدارس كثرة منقطعة النظير فى مصر والشام وما والاهما فى عهد الأيوبيين والمماليك، كما كثرت فى عهد الأتراك العثمانيين، وكان من أشهرها مدارس الآستانة الثمان.
وكانت مدارس للتفسير والحديث. ومدارس للفقه ومدارس لفقه مذهب بعينه، ولا ريب فى أن المدارس أدت للفقه الإسلامى أجل الخدمات وأخرجت أعلاما وأئمة فى الفقه، وفيها صنفت المؤلفات الفقهية العظيمة، وهى ككل أعمال هذه الحياة لا يمكن أن تخلو من نقض ولا أن تكون خيرا مطلقا، وهذا لا يبرر الحملة القاسية التى حملها على المدارس التلمسانى والمقرى من فقهاء المالكية فى القرن الثامن الهجرى فقد قالا إن المدارس كانت سببا فى ضياع الفقه، وذلك لأن هذه المدارس جذبت إليها طلاب العلم لما فيها من المرتبات الجارية عليهم، غير أنه لا يختار للتدريس بها من هو أهل لذلك وما سبيل القبول بها إلا الشفاعات والزلفى إلى ذوى الرياسة، أما الأكفاء فإنهم لا يدعون إليها، وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوف لهم بما شرطوا فانصرفوا، وبذلك ضاع العلم وضاع الطلاب حتى أنه كان يجلس على كرسى الأستاذ من لم يقرأ الرسالة ولم يفتح كتابا وربما جلس للتدريس من طريق التوارث، إلى آخر ما قالا.
ولا ريب فى أن هذا خلل واضح ذو أثر سيئ ولكنه ليس خللا عاما فى كل المدارس، ولقد شهدنا مثل هذا الخلل فى رواق الحنفية، وقد كان خللا طارئا لم يكن فى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده ونائبه عبد الكريم سلمان، وبالتزام الجادة والحزم فترة وجيزة عاد الحق إلى نصابه.
وكان بناء المدارس وما كان لها من أوقاف سببا لتدخل الحكومات الإسلامية فى شأن هذا التعليم بها ثم الإشراف عليه ثم تولى أمره كما هو الحال فى مصر وفى أكثر البلاد، وبذلك انقضى عهد التعليم والتعلم الفقهى الحر، اللهم إلا فى يسير من الأماكن.
وتعليم الفقه وتعلمه الآن فى المعاهد الدينية تعلم دينى كما كان من قبل. أما فى كليات الحقوق فتعليم تشريعى يتلقاه المسلم وغير المسلم.
ويعلم الفقه فى المساجد وفى المدارس بقدر ما يحتاج إليه المسلم فى تصحيح عبادته. وبعد أن اتسع الكلام فى العقائد وفى الحديث رواية ودراية، وفى التفسير- كان لكل ناحية منها أهلها المختصون بها كما كان للفقه أهله.
وفى منتصف هذا الطور بدأ التعليم يكون مختلطا، وجمعت فى هذه العلوم إلى بعضها فى دور التعليم، فكان التعليم الدينى يتناول ما يسمى بالعلوم الآلية وهى النحو والصرف وعلوم البلاغة الثلاثة وأصول الفقه والمنطق والتوحيد والفقه والتفسير والحديث، وقد سرى فى المحيط الإسلامى ما أعجب به علماء الأتراك العثمانيين وأغرقوا فيه من الانغماس فى العلوم العقلية والفلسفية وتقدير البارز فيها وعدم المبالاة بالنبوغ فى غيرها وإن كان الفقه.
ثم كانت فيما بعد العودة إلى الطريقة المثلى طريقة التخصص فكانت للفقه فى أكثر الأقطار الإسلامية كليات الشريعة.
وما تقدم أول هذا الفصل عن المصدر الوحيد للمقلدين مهما كان مقدار تحصيلهم ومالهم من الذوق الفقهى هو الذى يجرى عليه الكثيرون.
ويخالفه على استقامة فريق آخر يرى أن الاجتهاد واجب على كل إنسان حتى على العامى ولهم فى ذلك تفصيلات وحجج يضيق عنها المقام.
وهناك طريقة أخرى يبدو منها الاعتدال هى طريقة ابن عبد البر وهى خاصة بالمتفقهة وأهل الفقه فعاب على طلاب العلم فى بلده وفى زمنه أن حادوا عن طريق السلف وأطرحوا الكتاب والسنة والآثار والوقوف على الإجماع والاختلاف، واعتمدوا على
ما دون لهم من الرأى والاستحسان ومن مولدات الفروع بحجة أن من قبلهم كفاهم الرجوع إلى الأصول.
ومع ذلك فهم لا ينفكون عن ورود النوازل عليهم فيما لم يتقدمهم إلى الجواب عنه غيرهم فهم يقيسون على ما يحفظون من المسائل ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال الصحيح وطالبهم بما يريده فى استفاضة، ومحصل ما يرمى إليه أنه لا يريد أن يكون هناك إلا متفقهة وطلاب ومجتهدون ولا يرضى عن الطبقات الوسطى التى يقول بها سواه كما لا يرضى عسا يقول به الآخرون من اجتهاد المتفقهة والعوام.
وفى أواخر هذا الطور أخذ نطاق الفقه يضيق بزوال الحاجة إلى كثير من أبوايه.