لا حاكم سوى الله سبحانه، ولا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه.
على هذا اتفق المسلمون، وقال به جميعهم حتى المعتزلة (أهل العدل) الذين يقولون: إن فى الأفعال حسنا وقبحا يستقل العقل بإدراكهما ’ وأن على الله أن يأمر وينهى على وفق ما فى الأفعال من حسن وقبح، فالحاكم عند الجميع هو الله سبحانه، والحكم حكمه. وهو الشارع لا غيره، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق عليه اسم الشارع فى بعض عبارات العلماء، فما كان ذلك إلا تجوزا مراعاة لأنه المبلغ عنه.
وإذا كان الشاطبى فى بعض المواطن قد سمى عمل المجتهد تشريعا فما كان ذلك منه إلا تساهلا أساغه أن عمل المجتهد كاشف عن التشريع ومظهر له، فالسلطة التشريعية هى الله وحده.
والشريعة، أو الشرعة، أو الشرع، فيما يختص بالعمليات، هى حكم الله تعالى، وهو أثر خطابه جل شأنه المتعلق بأفعال العباد اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.
والله جلت حكمته لم يفوض إلى أحد من عباده، لا إلى رسول ولا نبى ولا إمام ولا ولى ولا إلى غيرهم، أن يشرع للناس من الأحكام ما يريد وأن يحكم بينهم بما يراه هو من عند نفسه وكيف اتفق، وقد نقل القول بالتفويض أو العصمة عن بعض الناس، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره وأقام الحجة البالغة على بطلانه، ومنهم من تأوله وحمله على إرادة النظر والاجتهاد.
والإحالة (بمعنى الإسناد فى لغة القانونيين) إلى شريعة أو أحكام أخرى تحل محل حكام الشريعة الإسلامية أحيانا أو تكمل أحكامها، أمر يحتاج إلى شىء من البيان. فغير المسلمين الكتابيون إذا كانوا من أهل دار الإسلام، اتفق الجميع على أنهم لا يتعرض لهم فى عباداتهم والقيام بشعائر دينهم، أما فيما عدا ذلك فالجمهور على أنهم خاضعون للشريعة الإسلامية فيتعرض لهم إذا خالفوا أحكامها ويقضى بينهم بتلك الأحكام متى كان القضاء بينهم حقا لنا- وهى مسألة اختلافية- وذهب الإمام أبو حنيفة نفسه: إلى أنه لا يتعرض لهم فى معاملاتهم التى لا يتعدى ضررها إلى المسلمين ويقضى بينهم فى ذلك بأحكام دينهم. أما فيما يتعدى ضرره إلى المسلمين، فإنهم خاضعون لأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا مجمل مذهبه بوجه عام. وذهب صاحباه إلى عدم التعرض لهم فى ذلك، ولكن يقضى بينهم بأحكام الشريعة الإسلامية.
ومن هذا الموجز يعرف من يقول بالإحالة ومدى قوله بها.
أما العرف فلا توجد إحالة تشريعية إلى أحكامه، فالعرف إنما يلجأ إليه فى معرفة ما يريده المتكلم من الأيمان والعقود وما إلى ذلك، وفى معرفة قيم المتلفات وأشباهها، وكفى الوقوف على الشروط التى يصحح العرف اشتراطها فى العقود.
هذا هو كل ما يلجأ فيه إلى العرف، ولا يلجأ إليه فى معرفة حكم تشريعى ليطبق، وإنما يلجأ إليه فى تكييف الواقعات والنوازل ليطبق عليها الحكم المعروف فى الشريعة، ولا يترك بسببه حكم نص ولا إجماع ولا حكم فقهى لم يكن مبنيا على العرف، وإنما يترك به الحكم الفقهى إذا كان مبنيا على عرف ثم تغير إلى عرف آخر. فاعتبار العرف فى الشريعة الإسلامية ليس من باب. الإحالة التشريعية، كما أنه ليس من الأدلة الإجمالية، ولا يعدو أن يكون قاعدة فقهية.
أما شرائع من قبلنا، فالكل متفقون على أن ما لم يروه الشارع لنا لا يكون شريعة لنا، وأن ما رواه لنا وأمرنا باتباعه كان من أحكام شريعتنا، واختلفوا فيما رواه لنا ولم يأمرنا باتباعه، فذهبت طائفة: إلى أن مجرد الرواية يعتبر كالأمر فيكون من شريعتنا، وذهبت طائفة أخرى: إلى أنه لا يكون شريعة لنا. فمسألة شرائع من قبلنا أبعد ما تكون عن موضوع الإحالة وعن أن تكون دليلا إجماليا ومصدرا فقهيا.
والمعتزلة قد ذهبوا: إلى أن العقل يستقل بادراك ما فى الأفعال من حسن وقبح، وبالتالى يستقل بادراك حكم الله الملائم لذلك وإن لم يأت به شرع ولم ينزل به الوحى. فالمصدر الأصلى عندهم للوقوف على حكم الله هو العقل.
أما جمهور المسلمين فعلى أنه لا حكم للعقل وأن حكم الله لا يعرف إلا من قبله، ولا يكون ذلك إلا من طريق الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (الكتاب والسنة)
الذى أمر بتبليغه إلى الناس فبلغه. فالطريق الوحيد إلى ذلك هو تبليغ الرسول - عليه الصلاة والسلام،- فلا عبرة بالإلهام والمكاشفة وأشباهها، فكل هذا لا يكون طريقا لمعرفة حكم الله، لأنه ليس وحيا. والتبليغ إنما يكون من الرسول - عليه الصلاة والسلام- فى يقظة المبلغ إليه، فلا عبرة بتبليغ الأحلام.
1- المصادر عند الجمهور:
ذهب جمهور الأصوليين والفقهاء إلى أن مصادر الفقه أى أدلته الإجمالية هى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقالوا أن المصدر الحقيقى هو الوحى كتابا كان أو سنة، أما الإجماع والقياس فمردهما إليه، وما ذكرا استقلالا إلا لكثرة بحوثهما، وذلك لأن المجمعين لا يضعون أحكاما من عند أنفسهم، ولا يجمعون عن الهوى والتشهى، ولا يكون إجماعهم إلا مستندا لأحد هذين المصدرين.
وكل من الكتاب والسنة قد أديت معانيه بلغة العرب الفصحى، ويخضع فى إفادته لهذه المعانى لأنواع الدلالات اللغوية ومنها دلالة اللفظ بمنطوقه، ومنها دلالة معنى اللفظ ومناط الحكم الذى شرع باللفظ المنطوق، وهذه الدلالة هى القياس. فكل من الإجماع والقياس راجع إلى الكتاب والسنة.
القرآن:
والقرآن هو كتاب الله تعالى الذى أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- بلفظة ومعناه، المكتوب فى المصاحف، المنقول عنه - عليه الصلاة والسلام - نقلا متواترا، فغير المتواتر لا يسمى قرآنا. فالقرآن جميعه قطعى الثبوت.
والكتاب الكريم لا كلام لأحد فى حجيته ولا فى أنه أول المصادر الفقهية. وإنما اختلفوا فى مسائل كثيرة تتعلق بالنسخ والعموم والخصوص ومقتضى الأمر والنهى وغير ذلك مما يرجع إلى طرق استفادة الأحكام منه.
السنة النبوية:
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا أو عملا أو تقريرا- هى الأصل الثانى من الأدلة الإجمالية والمصادر الفقهية، ولم يتكلم فى ذلك ولم يشكك فيه إلا أهل البدع والأهواء الذين طار بعض المستشرقين فرحا بما ظفروا به من أقوالهم، وضموا إليها ما شاء الله أن يضموا من أخطائهم وتحريفاتهم ومفترياتهم.
أما ذوو الدين والاستقامة من العلماء وسائر المسلمين، فقد أدوا للسنة حقها، ومتى صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تقبلوه أحسن القبول، ولم يرد أحد منهم حديثا صحيحا، ولم يعمل على خلافه، إلا أن يكون قد خفى عليه ولم يبلغه أو تأوله تأولا يراه صحيحا، أو قدم عليه ما هو أقوى منه عند التعارض. والحق أن مخالفيهم كان له أكبر نصيب فيما تردى فيه أهل البدع والأهواء، وبعض المستشرقين وأشياعهم.
وقد عنى الأئمة بأسانيد السنة وطرق إثباتها وبيان أقسامها، وما يحتج به منها وما لا يحتج، واختلفوا فى كل هذا، كما اختلفوا فى مسائل النسخ المتعلقة بها وفى طرق الدلالة واستفادة الأحكام منها على النحو الذى سبقت الإشارة إليه فى الكتاب الكريم. وأيا ما كان الأمر فالسنة عند الجميع منها قطعى الثبوت ومنها ظنى الثبوت ومنها قطعى الدلالة ومنها ظنيها.
الإجماع:
الإجماع الفقهى هو اتفاق مجتهدى عصر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعى عملى استنادا إلى الكتاب أو السنة أو القياس. وهذا ما جرى عليه الأكثرون، وقال النظام وبعض الشذاذ: إلا الإجماع لا يتصور وقوعه، وكذلك كانت بحوث ومناقشات حول الإجماع من بعد الصحابة، وإجماع بعض الصحابة وإجماع أهل البيت، وإجماع فقهاء بعض الأمصار، والأخذ بأقل ما قيل على أنه إجماع على الأقل.
والحق أن الكلام فى إجماع من عدا الصحابة ليس إلا جدلا نظريا، إذ لم يستطع أحد أن يأتى بحكم ثبت بالإجماع بعد عصر الصحابة. أما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد اجتهدوا واختلفوا واجتهدوا وأجمعوا ودون العلماء مسائل إجماعهم.
وإذا نقل الإجماع من طريق قطعى كان قطعى الثبوت وإلا كان ظنية، وهو قطعى فى دلالته على ما أجمع عليه.
القياس:
للقياس تعريفات مختلفة يطول إيرادها، والأكثرون على أن القياس حجة ودليل من الأدلة الإجمالية ومصدر فقهى، وقال الأقلون: ليس بحجة، ومنهم النظام والشيعة وأهل الظاهر.
وكان للأصوليين طرائق مختلفة فى تقسيم القياس، وبيان كل قسم منها، والقسم المتفق عليه من القائلين بالقياس، هو قياس العلة.
أما بقية الأقسام ففيها اختلافهم. وعلى القياس يقوم أكثر الفقه الاجتهادى وكله ظنى.
ب - مصادر أخرى:
وقد اعتاد كثير من الأصوليين. أن يذكروا مصادر أخرى على أنها مصادر مختلف فيها وهى فى الواقع لا تعدو أن تكون أنواعا من المصادر الأربعة السابقة أو قواعد كلية فقهية محضة.
فيذكرون شرائع من قبلنا، وقد عرفت ما فيها آنفا، وهى إن كانت شريعة لنا فهى من الكتاب والسنة. ويذكرون إجماع الشيخين، وإجماع أبى بكر وعمر وعثمان، وإجماع الأربعة الراشدين، وإجماع أهل البيت، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع أهل البصرة، والأخذ بأقل ما قيل للإجماع عليه من المختلفين، وكل هذه ليست إلا أنواعا من أنواع الإجماع. ويذكرون الاستحسان والمصلحة المرسلة والاستقراء وهى من أنواع القياس. ويذكرون الاستصحاب والبراءة الأصلية، وسد الذرائع، والعادة وا لعرف، وكلها قواعد فقهية وليست دليلا يستند إليه فى استنباط حكم شرعى.
ويذكرون العصمة وهى التفويض الذى سبق الكلام فيه.
وبهذا اتضح أن الدليل الحقيقى والمصدر الوحيد للتشريع الإسلامى والفقه الإسلامى بأجمعه، هو الوحى الإلهى، وأن مرد الإجماع والقياس اليه، وأن المصادر الأخرى ليست مصادر خارجة عن الأربعة أو هى ليست مصادر للفقه.
ج - أسباب اختلاف الفقهاء:
من الاستعراض السابق نفهم فى وضوح أن اختلاف الفقهاء المجتهدين يرجع إلى اختلافهم فى كون المصدر دليلا أو غير دليل، واختلافهم فى ثبوت المصدر أو عدم ثبوته، واختلافهم فى الترجيح عند التعارض، واختلافهم فى أنواع الدلالات وسائر طرق الاستفادة، ثم يأتى بعد كل هذا تفاوتهم فى الإحاطة وفى الأفهام وملكة الاستنباط وكمال الذوق الفقهى.
هذه هى الأمور الرئيسية التى ترجع إليها أسباب اختلاف الفقهاء من غير تفصيل، وهذه الأسباب قد عرض لها ابن حزم فى الأحكام، وابن تيمية فى رفع الملام وقال كل منهما: إنها عشرة، أما الشاطبى فقد روى فى الموافقات: أن ابن السيد وضع فيها كتابا وحصرها فى ثمانية، واكتفى بذكر عناوين الأبواب التى وردت فى ذلك الكتاب.
د- مصدر آخر:
ما سبق إيراده من المصادر هى مصادر الأئمة المجتهدين، أما غير المجتهدين من المقلدين فليس لهم إلا مصدر واحد، هو، أقوال الأئمة الذين يقلدونهم وإن كانوا من أصحاب الوجوه وأهل التخريج، أو من أهل الترجيح، أو من المحصلين المطلعين القادرين على التمييز بين الأقوال الصحيحة والفاسدة والقوية والضعيفة، والراجحة والمرجوحة، فما داموا لم تتوافر لهم الأهلية لأى نوع من أنواع الاجتهاد، فليس لهم أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة والإجماع، وليس لهم أن يقيسوا على ما ورد بها من الأحكام، وليس لهم إلا الرجوع الى أقوال أئمتهم ينظرون فيها نظر المجتهد فى الأدلة. ويستنبطون منها ما شاء الله أن يستنبطوا، وما استخرجوه منها يكون أقوالا فى مذهب إمامهم سواء وافقت أقوالا سابقة لفقهاء هذا المذهب، أو لم يسبقها ما يوافقها، ويقضى بهذه الأقوال ويفتى بها ويتبع فى شأنها ما يتبع فى العمل بأقوال مجتهدى المذهب عند اختلاف الرواية.
هكذا قال المتأخرون، وأمعن بعضهم فى هذا فقال: وإن قيل أن ما روى عن الإمام صاحب المذهب ليس قرآنا ولا أحاديث صحيحة. فكيف تستنبط الأحكام منه؟ قيل إنه كلام أئمة مجتهدين عالمين بقواعد الشريعة والعربية مبينين للأحكام الشرعية، فمدلول كلامهم حجة على من قلدهم، منطوقا كان أو مفهوما، صريحا كان أو إشارة، فكلامهم بالنسبة له كالقرآن والحديث بالنسبة لجميع المجتهدين.
قد لا يرضى بعض الناس عن هذا، وقد يمجده آخرون، إلا أن له فضلا عظيما لا يستطيع أحد إنكاره، وهو أنه فتح بابا واسعا لتطور الفقه ومسايرته لأحداث الحياة، بعد أن سادت لدى الجمهور فكرة انقطاع الاجتهاد، لأنه لا يوجد أهله. ومن الناس من لم يفهم الأمر على حقيقته، وسمى هذا الطور طور التقليد وجمود الفقه وشايعه من شايعه.