للأحكام الفقهية بالمعنى العام الشامل تقسيمات كثيرة تقوم على معانى واعتبارات مختلفة، فهى من ناحية أدلتها ثبوتا ودلالة تنقسم إلى أحكام قطعية وإلى أخرى ظنية. وهى من ناحية المقاصد التى شرعت من أجلها تنقسم إلى أحكام لحفظ الضروريات، وأحكام لصيانة الحاجيات، وأحكام لتحقيق التحسينات، وقد مضى ما يتعلق بهذين التقسيمين.
وقسموا هذه الأحكام إلى أحكام تكليفية، وأحكام تخييرية، وأحكام وضعيه.
فالحكم التكليفى هو اثر خطاب الله تعالى الموجه إلى المكلف بطلب الفعل أو بطلب تركه، وأثر الأول هو الفرض والوجوب والندب، وأثر الثانى هو الحرمة أو الكراهة، أما الخطاب التخييرى فأثره الإباحة.
أما الخطاب الوضعى فهو ما تعلق بالصحة والفساد والبطلان، وبكون الشىء أمارة أو علامة أو شرطا أو سببا أو علة لشىء آخر أو مانعا منه.
وقسموا الأحكام الشرعية أيضا إلى أحكام يمكن للقضاء أن يتدخل للإلزام بها والحكم بموجبها، وأحكام أخرى لا تدخل موضوعاتها تحت القضاء ولا يمكن الإلزام بها وتنفيذ ما تقضى به لاعتبارات مختلفة منها أن لا فائدة للإلتزام فى بعضها، ومنها أن بعضها لا يصح مع الجبر، ومنها أن موضوعات بعضها دقيقة وحساسة، فمن الخير أن يترك فيها لربه ولدينه.
وهذا النوع أحكامه كثيرة جدا ومنثورة فى مختلف أبواب الفقه.
وقسموها أيضا إلى عبادات، وإلى معاملات أو تجارات وإلى ما له شابه بهما وهو ما تعارفنا اليوم على تسميته الأحوال الشخصية.
وإلى دعاوى وبينات وأقضية، وهو ما سماه المرحوم الشيخ محمد زيد الأبيانى بالمرافعات الشرعية، مجاراة لإصلاح المرافعات الوضعية، واشتهرت هذه التسمية فى مصر.
وإلى وثائق أو عقود إستيثاق وإلى جنايات، وإلى وصايا ومواريث.
وهذا التقسيم تقسيم تأليفى جمع فيه النظير إلى نظيره، كما وضع كل نوع مع ما يناسبه، وللفقهاء فى هذا طرائق مختلفة حتى فى مؤلفات المذهب الواحد، وأن اتفق الكل على وضع العبادات فى الطليعة. ويقسمون المسائل الفقهية إلى قسمين: أصول المسائل، أو مسائل الأصول كما يعبرون أحيانا، والقسم الآخر هو ما عدا هذه المسائل.
ومسائل الأصول أو أصول المسائل تطلق على معان مختلفة، فتطلق تارة على المسائل التى يكون فيها الاستنباط، أما بيان المراد منها فيما هو منطوق به أو بدلالة معناها والقياسى عليها، فهى الأحكام التشريعية الواردة بالكتاب والسنة، فهى أصل لما تفرع عنها من طريق الاجتهاد. وتطلق تارة أخرى على الأحكام الكلية التى تذكر فى كل كتاب أو باب من أبواب الفقه، فهى أصول لما يتفرع عنها من المسائل ومن هذا المعنى كانت تسمية كتب المجتهدين الأولى كتب أصول، كما كان يطلق على كتاب المبسوط لمحمد بن الحسن كتاب الأصل، وكذلك كان يطلق ذلك على نظيره من مؤلفات سواه، كما يظهر ذلك واضحا من الرجوع إلى الفهرست لابن النديم. وتارة يطلق الأصل على قاعدة عامة لا تختص بباب بعينه وينبنى عليها فى كل باب أحكام تسمى أصولا بالمعنى الثانى، وذلك كقول الكرخى: الأصل أن الإجارة تصح ثم تستند إلى وقت العقد. وكقول الدبوسى: الأصل عند أبى يوسف أنة إذا لم يصح الشىء لم يصح مافى ضمنه وعند أبى حنيفة يجوز أن يثبت ما فى ضمنه وإن لم يصح.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قسموا هذه المسائل إلى مسائل ظهرت روايتها واشتهرت، ويقابلها المسائل النادرة التى لم تشتهر روايتها، وإلى المسائل القوية وتقابلها المسائل الضعيفة والشاذة، وإلى الراجح والمرجوح، وبينوا ترتيب كل هذه المسائل وما يجب العمل به منها إذا اختلفت.
وقسموا الأحكام الشرعية بالنظر إلى من يضاف إليه الحق الذى تقرره. وقالوا إن من يضاف إليه الحق قد يكون الله وقد يكون العبد. وقالوا إن المراد من حق الله ما يتعلق به النفع العام للعالم فلا يختص به أحد. وإنما كانت نسبته إلى الله للتعظيم فإنه جل شأنه متعال عن أن ينتفع بشىء.
وذلك كحرمة الزنا التى يتعلق بها عموم النفع من سلامة الأنساب وصيانة الفراش وارتفاع السيف بين العشائر بسبب ما يكون من التنازع من أجل الأعراض والتزاحم. وقالوا أن حق العبد ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية كحرمة المال للمملوك. وقالوا إن من الحقوق ما هو خالص لله وما هو خالص للعبد ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب، ومنها ما غلب فيه حق العبد وأن الاستقرار قد دل على أنه لا يوجد ما استوفى فيه الحقان. وبينوا الأحكام التى تندرج فى كل قسم من هذه الأقسام.
هذا هو ما يجرى عليه الأكثرون فى هذا التقسيم وهو يقوم على أن الحقوق فى الواقع لمصلحه العباد، ولكن الشاطبى قد تنبه إلى معنى أدق لما يمكن أن يسمى حكم الله وأفاض فى بيانه ثم خلص إلى قوله أن كل حكم شرعى ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد، فان حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق. وإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا فليس كذلك بإطلاق بل جاء على تغليب حق العبد فى الأحكام الدنيوية، كما أن كل حكم شرعى فيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد.
وما قرره الشاطبى هو ما تناصره أى الكتاب الكريم والسنة النبوية ووضع الشريعة نفسها، ولا سبيل إلى رده بحال. فكل حكم شرعى من أى نوع كان، يقوم على معنيين على السواء، المعنى التعبدى وهو إطاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والمعنى المصلحى للعباد دينا ودنيا، وإن شئت قلت المعنى الروحى والمعنى القانونى، فمن باع بيعا شرعيا أفاد بيعه ما يقتضيه العقد وكان هو مطيعا لله مستحقا لثوابه بامتثال أمره فى بيعه، ومن باع بيعا فاسدا، وتقابض البيعان، ترتب أثره المصلحى أو القانونى وهو إفادة الملك، وذلك هو المعنى القانونى، ولكنه لم يمتثل أمر ربه، فكان عاصيا لم يؤد إليه حقه التعبدى، الحق الروحى.
ومن قتل آخر فقد أرتكب جريمة العدوان على النفس ولها جزاؤها الخاص، وارتكب جريمة أخرى هى عصيانه لربه. وهاتان الجريمتان متمايزتان، وقد تنفصلان كما يتضح ذلك من بعض ما ذكره ابن حزم من الأمثلة. فقد قال: رجل لقى رجلا فقتله على نية الحرابة: أى العدوان، فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذى قتله، أو وجد مشركا محاربا، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا، ولا قود عليه ولا دية، لأنه لم يقتل مؤمنا حرام الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن ولم ينفذ ما أراد، وبين الاثنين بون كبير، لأن أحدهما هام والآخر فاعل.
وكإنسان لقى امرأة ظنها أجنبية فوطئها فإذا هى زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنا، لكن عليه إثم مريد الزنا ولا حد، ومن قذف حد القذف ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك.
إذا وضح هذا المعنى وضح أن الأحكام الشرعية ليست فى هذا كالأحكام الوضعية الجافة التى لا تنطوى على أى معنى روحى، فمن خالف القانون فى أى عقد من العقود طبق على عقده الحكم الملائم لكن القانون لا يغضب لمخالفة أحكامه يكثر من هذا ولا يعتبرها جريمة مستحقة للعقاب.
ومن هذا يظهر أن ما فى الشريعة من المعنى التعبدى الروحى كفيل بتربية الوازع الدينى وهو أعظم حافز على إطاعة القانون، وأن الالتجاء إلى الشريعة فيه أعظم خير للإنسانية ولتنفيذ النظم التى تكفل صلاح أمرها.
خصائص الشريعة الإسلامية:
أما وقد انساق بنا القول إلى هذا المعنى فقد أصبح هذا الموضع خير مكان لبيان مزايا الفقه الإسلامى وتفوقه على الشرائع الوضعية فى حكم الإنسانية وذلك لما يأتى:
أولا: المعنى التعبدى الروحى الذى يلازم كل حكم شرعى ويكفل تربية الضمير الروحى والوازع الدينى وفيهما أعظم كفيل بإطاعة القانون وليس للشرائع الوضعية شىء من ذلك.
ثانيا: أن الأحكام الشرعية أوسع نطاقا من الشرائع الوضعية وبخاصة فيما يرجع إلى الفضائل والرذائل فجميع الفضائل مأمور بها فى الشريعة، فهى واجبة، والرذائل جميعها منهى عنها، فهى محرمة، وفى أحكام كل من النوعين المعنى الخلقى والمعنى التعبدى الروحى فلها قوتها وشمولها بخلاف الشرائع الوضعية فإنها مع جفافها لا تنظر إلى الفضائل والرذائل إلا النظرة المادية المجردة.
ثالثا: أن لكل من الأحكام الشرعية والشرائع الوضعية الجهاز الدنيوى الذى يراقب تنفيذه وهما سواء فى ذلك. وتمتاز الأحكام الشرعية بمراقبة أعلى هى مراقبة العليم الخبير الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. فمن خالف القانون الوضعى وأفلت من المراقبة فلا عليه بعد ذلك.
أما من خالف الشريعة الإسلامية وأفلت من جهاز المراقبة الدنيوية فإنه لن يفلت من المراقبة العليا وهو ملاق جزاءه لا محالة. وذلك من أعظم مزايا التشريع ومن أقوى العوامل على إطاعته وتنفيذ أحكامه فى السر وفى العلن.
رابعا: أن الفقه الإسلامى بجميع أحكامه قد عاش قرونا متطاولة متلاحقة متتابعة، الأمر الذى لم يظفر به ولا بما يقرب منه أى تشريع فى العالم لا فى القديم ولا فى الحديث. وقد طوف فى الآفاق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ونزل السهول والجبال والصحارى، ولاقى مختلف العادات والتقاليد، وتقلب فى جميع البيئات وعاصر الرخاء والشدة، والسيادة والاستعباد، والحضارة والتخلف، وواجه الأحداث فى جميع هذه الأطوار فكانت له ثروة فقهية ضخمة لا مثيل لا، وفيها يجد كل بلد أيسر حل لمشاكله، وقد حكمت فى أزهى العصور فما قصرت عن الحاجة، ولا قعدت عن الوفاء بأى مطلب، ولا تخلفت بأهلها فى أى حين. فحرام علينا أن نتسول ونحن الأغنياء، وأن نتطفل على موائد المحدثين ونحن السادة الأكرمون. قاتل الله الاستعمار التشريعى وصنائعه وما يفعلون.