لقد أفرط الأشاعرة كغيرهم من علماء الكلام في الاعتماد على الأدلة العقلية والتقليل من شأن الأدلة السمعية، مع أن الأدلة العقلية التي سلكوها في معارضة الشرع كلها غير مستقيمة.
والمقصود في هذا المبحث بيان بعض صور الاضطراب والتناقض عندهم في مسألة الاعتماد على الدليل العقلي، وذلك في خمس مسائل:
المسألة الأولى: قولهم بعدم التيقن من انتفاء المعارض العقلي في الدليل النقلي مع الجزم بانتفائه في الدليل العقلي. مما اشترطه الأشاعرة في الدليل النقلي ليتم الاستدلال به على وجه القطع واليقين: العلم بعدم المعارض، وذكروا بأنه على فرض وجود القرائن المرجحة لإفادة الأدلة النقلية القطع، إلا أنه يبقى "في إفادتها لليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه" (?) وهذا الذي قاله الأشاعرة علق عليه ابن القيم بقوله: "ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد الزندقة، وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا" (?) اهـ.
وهذا الذي قاله الأشاعرة في الدليل النقلي يلزمون به في الدليل العقلي، إذ أين الدليل على عدم وجود المعارض العقلي فيه؟ فإن قالوا: إنه لا دليل على وجود المعارض العقلي، فيدل على عدمه، قيل لهم: لقد أثبتم أنتم أنفسكم ضعف هذا الدليل، فقد قال الإيجي: "المقصد الخامس: وههنا طريقان ضعيفان:
الأول: قالوا: ما لا دليل عليه يجب نفيه ... الثاني: قياس الغائب على الشاهد" (?) ولم يبق بعد هذا كله إلا قولهم: "عدم المعارض والغلط في المقدمات القطعية ضروري" (?) اهـ وهذا الجواب صحيح، ولكن يقال لهم: أليس التجويز قائماً عقلاً بوجود المعارض العقلي؟ مثاله ما ذكره الرازي من أنه إذا رأى شخص شخصاً أمامه، ثم أغمض عينه، ثم نظر إليه ثانياً، فإنه يحتمل أن يكون شخصاً آخر يماثله، إذ أن الله يقدر على إفناء الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ويوجد شخصاً آخر يماثله (?) ومع بقاء هذا الاحتمال قالوا: "إنه لا يمتنع أن يكون الشيء معلوم الجواز والإمكان، ومع ذلك فإنه يكون الجزم والقطع حاصلاً بأنه لم يوجد ولم يحصل" (?) وقالوا: "قد يحصل القطع والجزم مع قيام مثل هذا التجويز" (?) اهـ. فعندئذ يقال لهم: أليس اختياركم هذا مناقضاً لما ذهبتم إليه من أن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض العقلي ولو كانت القرائن شاهدة على إفادته اليقين؟ لاشك أن هذا تناقض بين.