وهذا غير كاف على أصل الأشعرية نفاة الحكمة، إذ أنهم جوزوا عليه كل فعل ممكن وإن كان خلاف الحكمة، ولا شك أن خلق المعجزات على يد الكاذب جائز، فيبقى الشك قائماً في صدق مدعي النبوة على أصلهم، أما أهل السنة والجماعة فينزهون الله تعالى عن مثل هذا الفعل لأنه خلاف حكمته (?).

وأما زعمهم بأن دلالة المعجزة على صدق النبي ضرورية، فإنه يوجب عليهم أحد أمرين: إما أن يقولوا: إن الله لا يمكنه أن يخلقها على يد الكاذب، وهذا تصريح بعجزه – وهم لا يسلمون بهذا لأنه يمكنه فعل كل شيء ممكن – فيقال إذاً ما معنى قولكم إن دلالتها ضرورية؟ فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو: أن الله يمكنه هذا الفعل ولكنه لا يفعله لحكمته – وهو الصواب – لكنه ينقض أصلهم من أساسه (?).وأما زعمهم بأن انتفاء إظهار المعجزة على يد الكاذب معلوم عادة كسائر العاديات فيقال لهم: لم تأتوا بجديد إذ أصلكم ما زال قائماً وهو تجويز الكذب فكما أن دلالة المعجزة على الصدق من العاديات، فكذلك يجوز إظهارها على يد الكاذب، إذ لا مانع من خرق هذه العادة، لأنكم جوزتم أن يفعل الله كل شيء ولم تثبتوا له حكمة يفعل لمقتضاها (?).والحق أن أدلة الأشاعرة من الضرورة والعادة دالة على إثبات الحكمة لله تعالى إلا أنهم لم يصرحوا بها، بل إن الرازي الذي ينفي التحسين والتقبيح العقليين قد صرح بذلك فقال: "والعلم الضروري حاصل بأن الكذب على الله تعالى محال، لأنه صفة نقص، وشهادة الفطرة دالة على أن صفة النقص محال على الله – تعالى – وعند هذا يحصل الجزم واليقين بأن ظهور المعجزات يدل على صدق الأنبياء عليهم السلام" (?).فظهر من العرض السابق أن الأشاعرة يلزمهم على أصلهم هذا: "سد باب النبوة وعدم الوثوق بالشرائع مع عدم التسليم" (?).

ويلاحظ كذلك أن الأشاعرة بإنكارهم لتحسين العقل وتقبيحه مطلقاً لشبهات أوجبت لهم ذلك، يكونون قد ضعفوا جانب العقل – وهذا تفريط منهم – يقابله إفراط آخر منهم في تقديم العقل، وأشير هنا إلى أمرين مما رفعوا فيه مقام العقل مقاماً مبالغاً فيه، وهما:

1 - إن الأشاعرة قد حكموا على الأدلة النقلية بأحكام مفادها تقديم العقل عليها في حالة التعارض – حسب زعمهم – وعدوا أخبار الآحاد من الظنون التي لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية، بل جعل بعضهم الأدلة النقلية كلها ظنية مما يترتب عنه عدم الأخذ بها في المسائل العلمية! فأين هذا من أصلهم القاضي بمنع تحسين العقل وتقبيحه! 2 - والأمر الثاني هو أنهم قد نصوا على أن المسائل التي يتوقف عليها الشرع لا تثبت إلا بالعقل، ومنها: معرفة وجود الله – فقالوا: طريق إثباتها العقل فقط، ووجوب المعرفة لا يثبت إلا بالشرع، فألزموا بالدور، ولا يخرجهم من هذا إلا بأن يسلموا أن المعرفة فطرية، أو يقولوا بتحسين العقل وتقبيحه على مقتضى الفطرة، ولذلك هم قد صرحوا بأنه لا يعذر أحد في عدم معرفة الله، بل جعلوا المقر بوحدانيته التارك للنظر مع تمكنه منه آثماً!! وفي هذا إقرار بشيء من تحسين العقل وتقبيحه وإن جاروا بإنكاره، وربما يكون هذا الأمر وغيره هو الذي جعل بعضهم يقر بأنواعه للحسن والقبح العقليين ويحصر الخلاف في استحقاق العذاب والجزاء فقط. وقد يكون هذا هو الذي جعل السجزي يرى أن الأشاعرة يقولون بوجوب معرفة الله عقلاً مع نفيهم لتحسين العقل وتقبيحه، فعده تناقضاً لهم فقال: "وقال الأشعري: "العقل لا يقتضي حسن شيء ولا قبحه، وإنما عرف القبيح والحسن بالسمع، ولولا السمع ما عرف قبح شيء ولا حسنه، ثم زعم أن معرفة الله سبحانه واجبة في العقل قبل ورود السمع، وأن تارك النظر فيها مع التمكن منه مستحق للعقوبة"، والنص إنما دل على ترك عقوبته لا أنه مستحق لها. فإن قال: إن معرفة الله وجبت ولم يعلم حسنها، واستحق تارك النظر فيها اللوم، كان متلاعباً، وإن قال: إنها حسنة، فقد أقر بأن العقل يقتضي معرفة الحسن والقبيح، وإنما ضاق به النفس لما قالت له المعتزلة: الظلم قبيح في العقل، وإذا أراد الله شيئاً ثم عذب عليه كان ظالماً، فركب الطريقة الشنعاء في أن لا حسن في العقل ولا تقبيح" (?).

¤منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 632

طور بواسطة نورين ميديا © 2015