الأمر الثاني: وهو متفرع على الأمر الأول، وهو في إثبات النبوات: لقد تقدم أن الأشاعرة قد أطالوا المقدمات ليصلوا إلى أهم المطالب عندهم وهو إثبات وجود الله تعالى وهذه المقدمات الطويلة تتعلق بتعريف العلم وأنواعه وطرق تحصيله واكتسابه، ثم الكلام عن الجواهر والأعراض وإثباتها بمقدمات طويلة. ثم بعد إثبات وجود الله يقيمون الأدلة على وحدانيته في الذات والصفات والأفعال. ثم بعد هذه المقدمات يأتون إلى مسألة تعد رابطة بين تلك المسائل العقلية وبين الشرع – ألا وهي إثبات النبوات، وطريق إثباتها: المعجزات فقط (?).وقد ذكروا عن كيفية حصولها: أن المعجزة: "فعل الفاعل المختار يظهرها على من يريد تصديقه بمشيئته لما تعلق به مشيئته" (?).وأما كيفية دلالتها فهي عندهم" إجراء الله عادته بخلق العلم بالصدق عقيبه، فإن إظهار المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكناً عقلاً فمعلوم انتفاؤه عادة كسائر العاديات" (?) ولهم تناقضان في هذا الأمر – وهما: التناقض الأول: بعد الضجة الكبرى التي أقامها هؤلاء المتكلمون الأشاعرة في أنه لابد من القواطع العقلية في المسائل الاعتقادية، وحكموا على الأدلة النقلية كلها أو بعضها على أنها ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، إذا بهم يصلون إلى مسألة عظيمة ليتوصلوا بها إلى الشرع وهي إثبات النوبات فقالوا: إن طريق إثباتها المعجزات فقط!! وأن دلالتها على النبوة عادية! أي ليست عقلية محضة، وهم يجوزون خرق العادة، وعليه فلا تكون المسألة قطعية على قولهم هذا. وقولهم: إن دلالتها وإن كانت عادية إلا أنها ضرورية (?) يستدعي عدم دقتهم في تحديد الأمور الضرورية كمسألة وجود الله تعالى إذ جعلوها من الأمور النظرية لا الضرورية! مع أنها ضرورية (?) وسيأتي إلزامهم في العادة والضرورة في التناقض الثاني إن شاء الله. التناقض الثاني: هو أنهم جعلوا دلالة المعجزة على صدق الرسول بمنزلة القول الصريح من الله بأن مدعي الرسالة صادق (?) وهذه الدلالة لا تتم إلا إذا قيل بامتناع الكذب على الله تعالى ولذلك قال الجويني: "فصل: امتناع الكذب على الله تعالى شرط في دلالة المعجزة" (?) اهـ. ووجه اشتراط امتناع الكذب، أنه لو لم يكن الكذب ممتنعاً عليه لجاز أن يصدق مدعى النبوة الكاذب. ولما قال الأشاعرة إن الكذب محال على الله بالشروع وأنه جائز عليه الكذب عقلاً، ألزمهم الناس بأنه يلزم الدور في هذا الاستدلال، إذ كيف يصح الاستدلال بدليل ولما يثبت طريق إثباته!. فالدليل هنا: الدليل السمعي – وطريق إثباته: المعجزة، فظهر الدور (?) أجابوا بأن دلالة المعجزة المنزلة منزلة القول ليست إخباراً يتصور فيه الكذب والصدق وإنما هي إنشاء، قال الجويني: "كأن المرسل قال: جعلته رسولاً، وأنشأت ذلك فيه آنفاً، ولم يقل ذلك مخبراً عما مضى" (?) اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015