يخوضون معارك يعلمون تمام العلم أنهم لن يخرجوا منها إلا أشلاء، ولكنهم يخوضون غمارها رجاء أن يهدوا من قوة الحكام شيئاً فشيئاً، امتثالاً لما يوجبه عليهم الغضب لله وإعزاز دينه بقتال أولئك الظلمة وإسقاط حكمهم الجائر. وليس لهم – كما يقولون – مطمع من مطامع الدنيا ولا يريدون اكتساب فخر من مفاخرها البراقة التي يسعى إليها أكثر الناس، من جمع الأموال والسيطرة، وبناء القصور الفاخرة، وطلب العيشة الناعمة، التي يتهالك عليها مخالفوهم – كما يقولون -، فليس منصب الخلافة عندهم مغنماً بل هو مسئولية خطيرة أمام الله لا يستهين بها إلا جاهل لا يقدر ثقلها؛ لذا فإنهم عندما يكون الأمر لهم يزهدون عن توليها، ويتدافعون فيما بينهم هرباً من تبعاتها، فمما يذكر عن زهدهم عنها أنهم حينما أرادوا تولية عبدالله بن وهب خليفة عليهم أبى وتحرج من ذلك، ولكنهم كرروا الطلب والإلحاح عليه حتى قبلها؛ قال المبرد: " قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد تكره ذلك فأبوا من سواه ولم يريدوا غيره، فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم استبينوا الرأي، أي دعوه يغب" (?).ويقول الشهر ستاني: " وكان يمتنع عليهم تحرجا ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً فلم يقتنعوا إلا به" (?)، وهذا موقف أول رئيس لهم فكان عمله هذا قدوة لمن بعده؛ إذ كان في نظرهم من أحق أهل الأرض بالخلافة عن جدارة ومقدرة، ومع ذلك فإنه خاف على نفسه وتحرج ولم يقبلها إلا بعد الإلحاح الصادق منهم، فقبلها كما يذكر عن نفسه لا حباً في الإمارة، ولم يدعها خوفاً من الموت، ومما يجدر ذكره أنه لم يقبلها إلا بعد أن عرضت على زملاء له في مثل قدرته وكفاءته لا يختلفون عنه ولكنهم رفضوها رفضاً باتاً، وذلك حينما قرروا الخروج إلى بعض كور الجبال فأخذوا في التشاور وتداولوا الرأي فيما بينهم في انتخاب خليفة لهم، " فقال حمزة بن سنان الأسدي – كما يروي المبرد – " يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنكم لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حسين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت؛ فبايعوه" (?).
ومثل هذا الموقف موقف آخر كان في زمن الدولة الأموية في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛ حيث يروي المحل بن خليفة تدافع الخوارج عن تولي الخلافة، وكان أبرزهم ثلاثة أشخاص هم المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي.
قال المحل بن خليفة فيما يرويه عنه الطبري: " إن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم: المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي ... فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي فتشاوروا فيمن يولون عليهم. قال: فقال لهم المستورد: يا أيها المسلمون والمؤمنون أراكم الله ما تحبون وعزل عنكم ما تكرهون، ولوا عليكم من أحببتم فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم، وما شرف الدنيا نريد وما البقاء فيما من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود.