ولقد وقع التحكيم في معركة صفين، وذلك حينما رضي علي – مُكرهاً – بالتحكيم وبتحكيم أبي موسى الأشعري أيضا وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في هذه القضية.
وقد انتهينا إلى أن علياً كان مكرها على قبوله، ومع ذلك فقد نقم عليه الخوارج قبوله له وجعلوه من أسباب خروجهم عن طاعتهم ثم زادت نقمتهم عليه حينما ظهرت النتيجة في غير صالحه، ونسوا أنهم هم الذين أرغموه على قبوله، ولهذا فقد رفضوا الدخول تحت خلافته بل خرجوا عليه.
واعتبار التحكيم سببا مباشرا في خروج الخوارج على الإمام علي هو ما يذهب إليه عامة علماء الفرق والمؤرخين. وهو ما يظهر في محاورة الخوارج للإمام علي حول خروجهم حين قالوا له: " إنا حكمنا فلما حكما أثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء؛ إن الله لا يحب الخائنين (?)، فهم يرون أن التحكيم كفر يخرج عن الملة ويجب الخروج على من يعتقده. وهذا ما نراه في جوابهم لأبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري حين قال لهم في محاورته لهم ليرجعوا إلى الطاعة: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو بايعناكم اليوم حكمتم غدا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل (?). وهو أيضا جوابهم لابن عباس إذ إنهم خرجوا كما يقولون غضبا؛ لأن التحكيم غير مطلوب في هذه القضية؛ لأن معاوية وأصحابه - في نظرهم – يجب جهادهم دون أدنى شك، فكان من ضمن جوابهم لابن عباس قولهم له: وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية. بل صارحوا عليا نفسه حين سألهم عن سبب خروجهم قائلا لهم: " فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين (?).وقد وصل التحدي بزرعة بن البرج الطائي أن يقول للإمام علي: " يا علي – ولم يناده بإمرة المؤمنين – لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله تعالى (?). وقد تابع جولد زيهر علماء الفرق الإسلامية في اعتبار التحكيم سببا في خروج الخوارج، بل هو عنده السبب الأول وفي ذلك يقول: " وقد كانت موافقة علي على التحكيم الباعث الأول لظهور إحدى الفرق الدينية في الإسلام (?).ولكننا نجد الدكتور عبد الرحمن بدوي يقلل من قيمة كون التحكيم سببا مباشرا في خروج الخوارج فيقول: " بيد أن هذا السبب المباشر هو أوهى الأسباب؛ فإن نزعة الخروج كانت كامنة في النفوس بسبب ما آل إليه أمر الخلافة على عهد عثمان وما انتهى إليه أمر الجماعة الإسلامية بعد مقتله؛ من تفرق الأمة إلى فريقين متعارضين متحاربين (?).
والواقع أن التحكيم ليس هو أوهى الأسباب كما قال، بل هو السبب الذي فجر الموقف وشطر جيش الإمام علي شطرين كبيرين مؤيدين له وخارجين عليه، وما كان الموقف ليكون على الصورة التي كان عليها بدون هذا السبب، فلو فرضنا أن الإمام علي لم يقبل التحكيم وانتصر بجيشه على جيش معاوية وتمت السيطرة له على جميع الأمصار الإسلامية – لو فرضنا ذلك -؛ فإن من المستبعد أن تقوم حركة الخوارج على نحو ما قامت عليه إذا استقرت الأوضاع للإمام علي على هذا النحو.
أما نزعة الخروج التي كانت كامنة بين الناس فما كان لها أن تحدث نتائجها الكبيرة بدون أسباب قوية تدعو إلى تلك النتائج، ربما كانت هذه النزعة تؤدي إلى نقد بعض الأوضاع والتذمر منها والرغبة في إصلاحها – وهو شأن المحكومين دائما مع حكامهم -، ولكنها لا تؤدي إلى الخروج بالمعنى الحقيقي إلا إذا كانت هناك أسباب مباشرة قوية تدفع الناس إليه بما في نفوسهم من استعداد سابق له.
¤الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص103