فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء، هذا هو ذا يتعلم أكل الفلوذج بدهن الفستق، فانصرفت عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.
قال أبو يوسف: ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون الرشيد فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها، فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها.
فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكك؟
فقلت: خيرا يا أمير المؤمنين.
قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فتعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا ودينا، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا ينظره بعين رأسه.
يقول ابن الجوزي: تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله، ومن لم يجد نشاطا للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح، وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثرا في الحفظ.
قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ.
وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه؟
قال: بجمع الهم.
وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم.
وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته.
وقال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، وجاء في الأثر: "من سلك طريقا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زل".