فقلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني فماذا يكون؟
قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان، فلا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عارا عليك في عقبك.
فقلت: لا حاجة لي في هذا، قال أبو حنيفة: فقلت: أتعلم النحو، فقلت: إذا حفظت النحو والعربية ما يكون من آخر أمري؟
قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة، وهذا لا عاقبة له.
قال: فقلت: أنظر في الشعر. فإن نظرت في الشعر حتى لم يكن أحد أشعر مني ماذا يكون من أمري؟
قالوا: تمدح هذا فيهيب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات، قلت: لا حاجة لي في هذا.
قلت: فإن نظرت في الكلام ماذا يكون آخره؟
قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشعات الكلام فيرمي بالزندقة، فإما أن تؤخذ فتقتل وإما أن تسلم فتكون مذموما ملوما.
قال أبو حنيفة: فقلت: فإن تعلمت الفقه، فماذا يكون من أمري؟
قالوا: تُسال تفتي وتطلب للقضاء وإن كنت شابا.
قال: فقلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته.
قال أبو يوسف القاضي: توفي أبي وخلفني صغيرا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار (يقصر الثوب) أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس وأسمع، فكانت أم تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقا يعود به على نفسه.