ولهؤلاء المضللين مغالطة أخرى حول الموضوع نفسه، وهي اعتمادهم على مفاهيم بعض الناس للأخلاق، واعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الأخلاق، مع أن مفاهيم الناس قد تصدق وقد تكذب، فهي لا تمثل جزءاً من حقيقة الشيء الذي هو موضوع البحث، وإنما تمثل مقدار إدراك أصحابها لحقيقة الشيء، فقد يكون هذا الإدراك مطابقاً، وقد يكون مخالفاً، وقد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، وهو لا يؤثر بحال من الأحوال على حقيقة الشيء.

لقد كان للفلاسفة القدماء مفاهيم عن السماء، وهذه المفاهيم مخالفة لواقع حال السماء، ومع ذلك فلا يقبل العقل اعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة السماء.

وللناس مفاهيم كثيرة باطلة عن الخالق، ولا يجوز أن تكون هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الخالق.

وينكر كروية الأرض منكرون، ولكن مفاهيم هذه لا يمكن أن تجعل الأرض في واقع حالها غير كروية.

وهكذا يدخل فريق من الناس في الأخلاق ما هو ليس من الأخلاق؛ كتقاليد وعادات وأحكام وضعية. ويجحد فريق من الناس بعض ما هو من الأخلاق، فيزعم أنه لا داعي للتقيد بقواعد الأخلاق فيها، فلا يؤثر هؤلاء ولا هؤلاء على الحقيقة المطلقة للأخلاق، فليست مفاهيم الناس هي التي تصنع الحقائق، وإنما وظيفتها أن تعمل على إدراك الحقائق، حتى تكون صورة مطابقة لها.

قال المغالطون – الذين زعموا أن الأخلاق نسبية اعتبارية، وليس لها حقيقة مطلقة ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة -: إن مما يدل على ذلك أن بعض الشعوب ترى خروج النساء بدون حجاب عملاً منافياً للأخلاق بينما ترى شعوب أخرى أن هذا العمل أمر طبيعي لا ينافي ضوابط الأخلاق بحال من الأحوال.

ويدل على ذلك أيضاً أن بعض الأمم تحرم أكل بعض أنواع من اللحوم، وتحرم شرب بعض أنواع من الأشربة، وتعتبر مخالفة ذلك عملاً منافياً للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء من ذلك محرم أو مناف للأخلاق.

ويأتون أيضاً بمثال تعدد الزوجات وإباحته عند أمة وتحريمه عند أمة أخرى، وبأمثلة الطقوس السائدة في البلاد الأوقيانوسية، ومنها تحريمهم الطعام تحت سقف والمكث في المسكن إذا كان الإنسان مريضاً، وتحريمهم استعمال الأيدي في تناول الغذاء بعد فراغ الإنسان من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق، ويقولون: هذه أمور منافية للأخلاق عندهم، مع أنها عند غيرهم أمور عادية لا تنافي الأخلاق مطلقا.

أليس عجيباً جداً أن يدخلوا مثل هذه الأمثلة في باب الأخلاق مع أنها في جوهرها من أبواب غير باب الأخلاق، فهي إما أحكام دينية، أو طقوس وعادات وتقاليد!! وإدخالها في باب الأخلاق خطأ فادح يجر إلى خطأ آخر أكبر منه بكثير، إنه خطأ يجعل الأخلاق أموراً نسبية اعتبارية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقيقة ثابتة في ذاتها!!

وما قيمة مفاهيم الناس حول حقيقة من الحقائق، ولنفرض أن بعض الناس استحسنوا رذائل الأخلاق، ولم يجدوا أي رادع من ضمائرهم يردعهم عنها، فمارسوا الظلم بمثل الجرأة التي يمارسون بها العدل، ومارسوا الخيانة بمثل الجرأة التي يمارسون بها الأمانة، ومارسوا قسوة القلب بمثل الجرأة التي يمارسون بها الشفقة والرحمة، ومارسوا الكذب الضار بمثل الجرأة التي يمارسون بها الصدق النافع؛ أفيغير ذلك واقع حال الرذائل فيجعلها من قبيل الفضائل؟!

كم نشاهد من شعوب تألف القذارات وتعيش فيها ولا تشعر بأنها تعمل عملاً غير مستحسن أو غير جميل، فهل تغير مفاهيمهم من واقع حال القذارة القبيح شيئاً؟!

إن فساد مفاهيم الناس حول حقيقة من حقائق المعرفة لا يغير من واقع حال هذه الحقيقة شيئاً، وجميع حقائق المعرفة تتعرض لمشكلة فساد مفاهيم الناس عنها، وفساد تصور الناس لها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015