الثاني: كانت أحوال مصر الداخلية تتطلب عودة عمرو بن العاص سريعا، إذ أتاه كتاب ذكر فيه: "أن الروم يريدون نكث العهد، ونقض ما كان بينهم وبينه ... فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه"1. واكتفى بإرسال البعوث الخفيفة السريعة للتذكير بين حين وحين بقوة المسلمين2.
أثبتت الأحداث -إذن- أن الوقت لم يحن بعد لمواصلة الجهاد نحو إفريقية.
وإلى هنا ينتهي دور عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في فتوح المغرب، وهو دور ليس بالكبير، فليس فيه مواقع عظيمة، إنما هو تقدم سهل في مناطق قليلة المقاومة. وقد حرص دائما على أن يكون بمقربة من الساحل لا موغلا في الداخل كما سيفعل كثيرون ممن سيأتون بعده من قادة الفتح، وقد اهتم كذلك بأن يؤمن له أمر الساحل؛ فلم يكد يتم فتح "برقة" حتى بعث عقبة بن نافع إلى "فزان"، ولم يكد يتم له فتح "طرابلس" حتى أرسل بسر بن أرطأة إلى "ودان". وهذه السياسة الحكيمة -أي تأمين المناطق الداخلية في خطوط الفتح- سيهملها أكبر القواعد الذين أتوا بعده، وهو عقبة بن نافع، فكان إهمالها سببا في ضياع جهوده كلها هباء؛ بل في استشهاده هو، وانتقاض إفريقية كلها انتقاضا تاما3.