وربما كانت هذه الخلفية هى ما دار فى ذهن بديع الزمان الهمذانى حين اختار كلمة "مقامة" ليعبر عما تضمنته أعماله من خطب تثقيفية لبطله "أبو الفتح الاسكندرى" والتى يرويها عنه "عيسى بن هشام"، ثم أطلقت فيما بعد على الفن الأدبى بأكمله، والذى اختلط -كما سنرى- بما كان يسمى "الرسالة" و"الحديث". هذا وقد جمعت شواهد لمقامات شعرية ونثرية سابقة على أعمال بديع الزمان.

نشأة فن المقامات

نشأة فن المقامات: فى المقامات التى وضعها ابن قتيبة كان خطيب الجمع بدويا أو شخصا رث الثياب، وإن كان عالى الفصاحة، وهو نفس الدور الذى يقوم به "القاص، أو القصاص" أمام جمهور العامة، والذى اختلط فيما بعد بأعمال المكديين (الشحاذون الجوالون) وأعمال الصعاليك والدجالين. ولعل الجاحظ يكون أول من صور هذه الشخصيات المفعمة بالحيوية فيما تضمنه كتابه "البخلاء" عن "حيل اللصوص" و"حيل المكديين". كما لا يجب أن ننسى دور الممثلين الهزليين، حيث إن المقامة تحتوى على عنصر مسرحى لا ينكر، من إبراز المظهر الملائم للراوى، وتهيئة الحالة النفسية العامة للموقف.

كما يشار أيضًا فى هذا الصدد لأدب "الفرج بعد الشدة" للتنوخى، معاصر الهمذانى، وهو يحتوى أيضًا على أشخاص يدعو مظهرهم للشفقة، ولكنهم ذوى مواهب خارقة فى فن الخطابة. والمقابلة بين المظهر الرث وبين الفصاحة أو الحكمة هو أمر معتاد فى أدب الملح والنوادر.

ويذهب الحصرى (توفى 413 هـ/ 1022 م) إلى أن الهمذانى قد عارض أربعين حديثا منسوبة لابن دريد فى أربعمائة مقامة حول الكدية والمكديين، ويؤيد الدكتور زكى مبارك هذا الرأى، بينما يفنده صادق الرافعى. كما يشير القلقشندى فى "صبح الأعشى" لمقامة منسوبة إلى أبى القاسم الخوارزمى، ولكن الراجح أنها ترجع لعصر تال لبديع الزمان.

وأيا كانت الحالة، فربما يمكننا أن نؤكد أن فكرة "المقامة" كما نعرفها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015