كانت لائحة فى الأفق، علم، أن النقاد يجمعون على نسبتها -كفن أدبى مبتكر- لبديع الزمان الهمذانى. ويتساءل البعض حول احتمال تأثر الهمذانى فى ذلك بنماذج إغريقية أو بيزنطية، ولكن هذا أمر مستبعد، فيما لا شك فيه أنه قد نشأ فى جو عربى إسلامى خالص، أما تأثره بمؤثرات سابقة عليه فلا يمنع من الإشادة له بالفضل لنجاحه -من خلال تخليقه الحركى لشخصيتيه، خاصة البطل فيهما، فى أدوار محددة بكل دقة- فى تشخيص كافة فئات المجتمع.
بنية المقامة الأصلية: يتسم هذا الفن فى أعمال واضحه من ناحية الشكل باستخدام السجع، وهو النثر الإيقاعى المقفى، والممتزج بالشعر أحيانًا، مع وجود بطل فصيح (أبو الفتح الاسكندرى)، وراو (عيسى بن هشام) يروى الحكاية للمؤلف، الذى يقصها بدوره على القراء. ويشبه ذلك؛ رواية الشعر أو الأحاديث النبوية، غير أن الراوى هنا شخصية تخيلية. ويجرى ترتيب الحوادث على الوجه التالى: وصول الراوى لبلدة ما، مقابلته للفصيح، خطاب الفصيح للجمهور، مكافأته، تعرف الراوى عليه، توبيخ الراوى للفصيح، تبرير الفصيح لعمله، الفراق. وبالطبع لا تسير هذه الخطة بصورة مطردة فى كل أعمال الهمذانى، وبالأحرى فى أعمال خلفائه.
وقد غطى هذا الفن منذ بدايته قدرًا كبيرًا من الموضوعات: المشاهير من الشعراء القدامى والمحدثين، وكتاب النثر كابن المقفع والجاحظ، وأئمة المعتزلة، إبراز العبارات الخارجة، ولغة السوقة، استعراض المعرفة المعجمية، الخ.
ورغم أنه يروى عن بديع الزمان قوله أنه قد كتب، أربعمائة من تلك المقامات، إلا أن هذا غير محتمل بقدر كبير، والرأى الراجح أنها فى حدود الخمسين، وقد أصبح هذا العدد تقليديا عند الكثير من كتاب المقامات بعد ذلك.
أما عن المحتوى، فقد تناول هذا الفن العديد من الأغراض، الموعظة، الوصف، الرسالة، أدب الرحلات، الحوار والمناظرة، إلخ.
تطور فن المقامة: لم يمض وقت طويل حتى إنغمس كتاب المقامات فى