أن أحد تلاميذ ذى النون وهو يوسف ابن الحسين الرازي خرج ذات يوم من لدن أستاذه فوجد فقهاء إخميم تعصبوا ونزلوا إلى زورق ذاهبين إلى سلطان مصر ليشهدوا بكفره فانقلب الزورق والناس ينظرون (?): فاشتغال ذى النون بهذا العلم الباطنى الَّذي كان جديدًا وقتئذ على أهل مصر بصفة عامة وفقهائها بصفة خاصة وفقهاء إخميم بصفة أخص، مضافًا إليه ما سبق أن أشرنا إليه آنفا من رأى ذى النون في أهل الحديث والفقه، ونعيه عليهم، وما نسبه إليهم من النقص الَّذي دخل عليهم، ومن الفتنة بالدنيا، واتخاذهم من العلم فخا للدنيا، وسلاحا يكسبونها به، وكل أولئك كان دافعا لهم إلى أن يشنعوا عليه، ويرجفوا به، ويغروا

السلطان باضطهاده وإيذائه، بل بقتله.

وإذا كان ذلك كذلك، فقد استدعى الخليفة المتوكل ذا النون من مصر إلى بغداد، فحمل إليه في جماعة مغلولا مقيدا تمهيدا لقتله، لكنه لم يكد يمثل بين يدى الخليفة حتَّى تكلم واعظًا، ولم يكد يتكلم ويعظ حتَّى أعجب به الخليفة فإذا هو يبكى ويطلقه ورفقته، ويرد مكرمًا إلى مصر، ويقول: "إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم" وذلك على حد رواية المناوى (?) أو يقول: "إذا ذكر أهل الورع فحيهلا بذى النون"، وذلك على حد رواية ابن خلكان (?).

أما كيف وقع ذو النون من نفس المتوكل هذا الموقع الحسن، وأى كلام تكلمه ذو النون فملك به على المتوكل نفسه، فذلك ما يحدثنا عنه أبو نعيم الأصبهانى (?) حديثًا مفصلًا يعطينا صورة لخلق ذى النون في سلوكه ومحافظته على كرامته مع أصحاب

السلطان من ناحية، ويعطينا صورة أخرى لما يراه ذو النون في الزهاد والصوفية من "أن أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، وأنهم هم الذين قد سكنت لهم النفوس، ورضوا بالفقر والبؤس, واطمأنت جوارحهم على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015