كان ثمة منافسة فيها بين الأفكار الفارسية والأفكار اليونانية أو في منهج الفرس ومنهج الإغريق، أي بين نظام الكشورات الفارسية ونظام الأقاليم اليونانى، أن أفكار الإغريق كانت أكثر قبولا وظلت شائعة. والأساس الإغريقى للجغرافيا العربية كان أبرز ما يكون في ميدان الرياضيات والطبيعة والجغرافيا البشرية والحيوية. وكان الأثر الإغريقى أثرًا باقيًا ملحًا، ذلك أنه ظل أساس الجغرافيا عند العرب إلى عهد متأخر يرجع إلى القرن التاسع عشر (وجدت آثار أيام القرن التاسع عشر في كتب عن الجغرافيا بالفارسية بل بالأردية صنفت في الهند)، مع أن أثر بطلميوس على العقول الأوربية كان قد نقص قبل ذلك التاريخ بكثير. على أننا لا نستطيع أن ننكر أنه كان ثمة في هذه المدة صراع خفى بين الأفكار النظرية لجهابذة الإغريق وبين التجربة والملاحظة التي قام بها تجار هذه الأيام وملاحوها. وقد أشار المسعودى إلى ذلك فيما يختص بنظرية بطلميوس عن وجود أرض مجهولة في نصف الكرة الجنوبي. على أن ابن حوقل يعد بطلميوس معصومًا من الخطأ أو يكاد، والحقيقة أن المعرفة الإغريقية حين انتقلت إلى العرب كانت قد عفى عليها الزمن من قبل مدة خمسة قرون تقريبًا، ومن ثم قامت صعوبة عندما حاول جغرافيو العرب أن يدخلوا في الإطار البطلمى معلومات جديدة معاصرة حصّلوها وأن يطردوا بها المعلومات الإغريقية. ونتج من ذلك اضطراب وسوء عرض للحقائق في كتب الجغرافيا ورسم الخرائط كما يتبين من كتب جغرافيين مثل الإدريسي.
(4) الحقبة القديمة
(من القرن الثالث إلى القرن الخامس الهجرى = القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر الميلادي)
(أ) عصر المأمون (197 - 218 هـ = 813 - 833 م):
مر نيّف ونصف قرن على معرفة العرب ودراستهم لعلم الجغرافيا عند الهنود والإيرانيين والإغريق، من عهد الخليفة المنصور (136 - 157 هـ = 754 - 774 م) حتى عهد المأمون، فأدى ذلك إلى ثورة كاملة في الفكر